كتاب خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني

لابد أن يكون مستوعبا لمسائل هذا العلم، ومستخرجا من اللغة التي استخراج منها هذا العلم، ومؤديا الوظائف نفسها التي كان يؤديها هذا العلم، وأن نطمءن على قدرته على شرح طرائق العربية، وتحليل سننها في الإبانة عن معانيها قبل أن تئد هذه البلاغة التي قامت بهذه المهملة هذا الزمن الطويل، وإذا جاز لمن استخرجوا علم الأسلوب من لغاتهم وعلومهم، أن يقولوا هذا بناء على رؤيتهم، وأنهم حراص على لغاتهم، فلا يجوز لنا أن نقوله في بلاغتنا، وليس عندنا علم أسلوب، نعم يجوز لنا أن نقول هذا إذا قبلنا أن نكون ببغاوات تردد وتحكي ولا تعقل.
قلت أنني قرأت هذه وطرحته ثم فوجئت بهذا الكلام الفارغ يتكرر في كتب يدرسها أبناؤنا في جامعتنا.
والذي أعلمه ويعلمه كل من له عقل أن شأن الذي يحمل القلم ألا يكون متهورًا؛ وأنه يجب أن يكون حذرًا مترددا، وأن الأصل فيه أن يكون خبيرا بمفردات العلم الذي يتكلم فيه، وإذا رأى مفردة من هذه المفردات لا تيعن على فهم سر من أسراراللسان الذي هو منأهله عليه أيضا أن يتردد في الحكم على هذه المفردة بوجوب الإعدام، لاحتمال أن تكون لها فائدة غابت عنه، أما أن يحكم على علم كامل من ألفه إلى يائه، بالوأد فهذه ليس من شأن من يحمل القلم، لأن هذاالعلم كما قلت مستخرج من أوهامهم، وأو فسفاتهم، وإنما هو التقاط لوجود الدلالات، بعد وعي ومراجعة، لنصوص كثيرة وسياقات كثيرة وغير ذلك مما ساعد العلماء على وضع هذه القوانين واستخلاصها، والناظر في الكتب بعين باحث يرى سعة نظرهم ودقة ملاحظتهم، وطول مراجعتهم عند استنباط كل مسألة.
ثم إن هذا العلم وإن كان يراه لا يصلح في دراسة ما هو مشغول به
وأبو يعقوب السكاكي الذي يقولون عنه إنه جمد على البلاغة يجعل نفقد الشعر والكلام المبين أساس تعريفه لعلم المعاني لأنه عنده تتبع خواص التراكيب وما يتصل بها من الاستحسان وغيره، وخواص التراكيب هي أحوال مبانيها وما وراء هذه المباني من لطائف المعاني، وقد اعترض عليه العلماء لأن التتبع ليس علما ولا يدخل في حدود العلم، وكان السكاكي كثيرا ما يعول على متعارف أهل البيان يعني ما نطق به الشعراء ودبجه الكتاب وحاكته السنة الخطباء.
ومحمود بن عمر الزمخشري لم يؤلف كتابا في البلاغة، وإنما ألف كتابا سماه أساس البلاغة، والأساس معناه الأصل والجوهر، والكتاب جمل قصار، وتخيرها مما نطق به أصحاب اللسان كأنها حبات الدر، نرى الكلمة فيها تتقلب على وجوه من المعاني في ضروب من الصيغ، وتراها في تقلبها ذات معان تختلف وتأتلف، وتتقارب وتتابعد، ولها في كل ذلك ألق يتميز، والوعي بهذه الشذرات البيانية، وهذه الجمل المتخيرة وتشربها وطول ملابستها هو أساس البلاغةن يعني إعداد النفس وإثرائها حتى إذا سمعت الكلام ميزته وعرفت منزلته من الفضل.
ولعلمائنا مقاصد وأغراض في تسميات كتبهم، ولم يسم الزمخشري كتابه: أساس البلاغة إلا وهو يقصد معنى لفظ أساس، وأن البلاغة لا تبنى إلى على هذا الأساس، وأن هذه الشذرات البيانية المختارة كأنها متن بياني يجب على طالب العلم أن يرتاض به، وأن يرتاض فيه، وأن يصقل به لسانه وعقله ولغته، ونفسه، لأن البلاغة لا وجود لها في نفس ذات حسن غليظ، ولا وجود لها إلا حين يوجد القلب الحي والنفس اليقظي، وأن مراجعة هذا الأساس هو السبيل إلى وجود القلب الحي والنفس اليقظي.
وعبد القاهر سمى كتابه: دلائل الإعجاز يعني هو دليل النبوة، وهذا الكتاب الذي هو من أصل الدين على حد ما تدل عليه تسميته بناه الشيخ على

الصفحة 6