كتاب خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني

فعليه أن يراجع حقول المعرفة الأخرى التي تعتمده، وتقوم عليه، كحقل التفسير الذي أكد علماؤه أنه لايجوز الخوضش في إلا باستصحاب علمي المعاني والبيان، وأن كل العلوم الأخرى لا تغني غناءه إذا غاب، وكحقل الفقه واستنباط الأحكام الشرعية من كلام الله وكلام رسوله. واعتماد الفقهاء على هذا العلم أمر لا يجوز الاستشهاد له، لأنه أعرف وأشهر، وكحقل أصول الدين الذي ترجع خلافات علمائه فيما اختلفوا فيه إلى هذه الأصول البلاغية، ودلالات الصيغ والتراكيب، وكل ذلك يجعل العالم والجاهل لا يقدم على على القول بضرورة موته وإعدامه، ولهذا قلت إنه أقرب إلى عبث العابثين منه إلى كلام أهل العلم، إلا إذا كان المراد إطفاء الأضواء في هذهالحقول كها، يعني طمس الطريق الواصل إلى التفسير ومعرفة التأويل، وطمس الطريق الواصل إلى استنباط الأحكام الفقهية، وأيضا وأد علوم القرآن المؤسسة كلها تقريبا على هذا العلم، ونحن محتاجون إلى أن نتخلى عن عقولنا لنقتنع بأن هذا تجديد وتطوير، وأن علم الأسلوب المنتزع من غير العربية يمكن أن يكون أداة المفسر، والفقيه، والأصولي، وعالم العقائد، وأننبسط سلطانه أيضا على علوم القرآن، والمدهش أن هذا الهزل الفارغ يجد من يقبلونه، ويكررونه، بدلا من أن يردوه أو يسكتوا عنه، وأنا لم أرده قبل ذلك لأنه لا يرضاه إلا من لا قيمة لرضاه، ثم اضطرت إلى أن أنبه بهذا الكلام الظاهر تبرئة للذمة أمام هذا الجيل الذي تدمره أقلام لا تدري مغبة ما تكتب.
ولا يجوز أن أدع هذه المسألة من غير الإشارة إلى أمر يذهل ويضحك أيضا هو أن الذين يقولون إن البلاغة يجب أن تدفن في التراب، وتغرس شجرة علم الأسلوب في رفاتها، يطيلون ذيل الكلام في إكبار فكر
الشعر، وفي الكتاب أدلة ظاهرة على أن الشيخ رحمه الله لم يكتب كل الذي عنده في علم المعاني وإنما كان يفتح باب مسائل ثم يرجع عنها واعدا بوفائها ثم أعجله نداء ربه، والمهم أن كتابه ما دام دليل النبوة فهو من هذه الجهة في أصول الدين، ثم هو مؤسس على الشعر جاء في الكشف عن أسرار الشعر وأحواله ودقائقه ووسائل بيانه، وبهذا نرى كتب أصول الدين تؤسس على الشعر وبتني عليه وتتخذ منا لشعر معدنا لها، ولو قلت أن الشعر أسسا علومنا وأصل من أصول الدين لم تكن قد تجاوزت الحقيقة، وهذا الأمر هو الذي يجعل الزمخشري يجمع ما تراجزت به الأعراب على أقواه القلب وما تماتنت به قراضبة نجد وتهامة، والقراضبة هم اللصوص والفتاك وفصاحتهم أنقى، ويقول إن هذا الذي جمعه من أفواه فتاك العرب ولصوصها وأراجيز ورعاتها هو أساس البلاغة، وعلم الإعجاز الذي هو برهان النبوة وحجة الله القائمة على الخلق، وقد أصاب رحخه الله ورجى على ماجرى عليه علماء السلف رضوان الله عليهم الذين تسلسل إليهم العلم من علماء الصحابة رضوان الله عليهم، والذين أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقل إلينا سلسلا من سلسل حتى أتانا وأتانا به اليقين.
فإذا كنت أقول إن علم الشعر هو أصل علومنا فلا يفزعنك ذلك ولا تستغربه واعلم أن علوم الأمة كلها من نحو وصرف وبلاغة وتفسير وحديث وعقائد وفقه وأصول فقه. كلها مرتكزة على هذا الشعر وقائمة على متونه، لأنه هو اللسان، وكان القرآن بين أيدي علمائنا وهم يستخرجون أصول العربية ولكنهم سلكوا سبيل الهدي لما استخرجوا هذه الأصول من الشعر لأن الغاية هي حفظ اللسان الذي ينزل به القرآن ولن يحفظ القرآن إلا بحفظ لغته، ولو وقف علماؤنا عند القرآن وتركوا الشعر لضاع منهم الكثير لأن كثيرا من صيغ العربية واشتقاقاتها لم قع في القرآن، فالشعر هو الدائرة الأوسع التي إذا حفظناها نكون قد أقمنا حول كتاب الله ثوابت من المعارف المؤسسة على أصول من المنهج الصحيح، تظل بين يدي الذاكر الحكيم تهيء لسماعه وفهمه، وتذوق بلاغته وأسرار بيانه.

الصفحة 7