كتاب خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني

واعلم أن الشعر كله في هذا الباب على قدم واحدة. والشرط الذي يجب أن يتوفر فيه أن يكون فيه نفح طاهر من جزالة اللسان ورصانة البيان، يستوي في ذلك شعر الجاهلية وغيره، وإن كان لشعر الجاهلية مزيد خصوص، وكان في مجتمع المسلمين ولا يزال رجال يصرفون الناس عن الشعر لأن الله كما قالوا ذمه في التنزيل، وحدث مثل ذلك في زمن ابن عباس رضوان الله عليهما، وكان يسأل في شيء من هذا فيروي البيت فيه اللفظ لا يكنو عنه ثم يحرم بالصلاة، وقد قوى هذا الاتجاه في زمن عبد القاهر، وكان يستشعر خطره على علوم العربية وعلوم العقيدة وأصول الدين، وناقش هذا بمنهج مستقيم وانتهى به التحليل العقلي إلى أن الصاد عن الشعر صاد عن كتاب الله وهو -أي الصاد- بمثابة من يمنع الناس من قراءة المصحف، وذلك لأن الغرض من التلاوة أن تظل حجة الله قائمة بهذا القرآن، وأن هذا الكلام المتلو ليس من كلام البشر، وأنه قاطع لأطماع البشر ولا يمكن أن تدرك هذا إلا إذا أحكمنا فهم كلام البشر وعرفنا أن له طبقا لا يتعداه، وأن هذا المتلو فوق كل طبق، وهذا وراءه باب متسع من الفهم للشعر وضروبه ومذابه وطبقاته، وهكذا حلل عبد القاهر هذا التيار الشاذ في زمانه وفي زماننا ودل على خطره، ولا يزال رجال يتحرشون بهذا الدين منجهة الشعر وقصة بحث مرجليونث اليهودي الذي ضمنه طه حسن كتابه فيا لشعر الجاهلي لا تزال حية، وقد هاج العلماء لما شكك طه حسين في الشعر الجاهلي نقلا عن مرجليوث لأنهم يدركون خطر هذا الاتجاه.
ولله أمر هذا الشعر الذي تلتقي على رأسه مطارق اليهود مع متنطعي الإسلام، ولا يزال في شبابنا زرع نبت حول بعض الاتجاهات الإسلامية يفسق شعر فلان وفلان ويؤثم روايته ويقسم الشعر إلى بر وفاجر، وأقول لهم إن الشافعي -رحمه الله- كان يحفظ شعر العربية، وقد روى عنه الأصمعي شعر هذيل وهو شعر كغيره، وكان الأصمعي الذي روى هذا الشعر عن

الصفحة 8