كتاب خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني

كيف يستقيم هذا في عقل الطالب الذي ذهب إلى الجامعة ليدرس علوم أمته وعلوم لغته؟ وأي تدمير يدمر هذه النفس الذاهبة لتتعلم حين يداخلها هذا التناقض العجيب، والازراء باللسان الذي هو لسانه، والإزراء بالميادين العريقة التي يفتح هذا العلم العريق أبوابها؟ أي شيء يبقى في هذه النفس من الإحساس بالانتماء إلى هذا العلوم التي هي جوهر وحقيقة هذه الأمة وحضارتها؟!
إن القول بوأد البلاغة مع شناعته وبشاعته وجاهليته وغشمه أكرم من القول ببقائها لأنها تشبه في بعض أطرافها علما صاغه غرباء من لغة غريبة وآداب غريبة ثم هو العدو الألد.
بقي كلامان كنت قرأتهما أيضا منذ زمن بعيد للمرحوم أمين الخولي ثم طرحتهما لأنهما يخالفان ما أعلم مخالفة ظاهرة ثم رأيتهما يطلان من جديد.
الكلام الأول القول بأن البلاغة انحصرت في الجملة ولم تتناول النص الكامل. والذي أعلمه أن النص مجموعة منالجمل وتدقيق الدرس البلاغي في تحليل الجملت يضع في يدي مفتاح دراسة النص الكامل لأنني أنتقل بهذه الأداة المدققة في بناء الجملة من جملة إلى جملة إلى جملة، حتى أصل إلى نهاية النص، والذي يشرح لي قاعدة في النحو أو في البلاغة لا يتحا له أن يجعل شاهده النص الكامل، وإنما هو يشرح لي مثلا تركيب الجملة مع همزة الاستفهام فيدور بهذه الهمزة على مفردات الجملة، ويقول لي إن دخول الهمزة على الفعل، يفيد معنى لا يفيده إذا أدخلنا الهمزة على الفاعل، أو المفعول وهكذا؛ وحسبه أن يعلمني كيف أستخرج دلالة التركيب من الجملة.
ثم القول بأن البلاغة وقفت عند هذا كلام يضيع كثيرا من المسائل
الإمام يخالف في بعض الروايات في أوصاف النساء كما في قصيدة أمية بن أ [ي عائذ التي يقول فيها:
ليلى وما ليلى ولم أر مثله ... بين السماء والأرض ذات عقاص
بيضاء صافية المدامع هولة ... للناظرين كدرة الغواص
كالشمس جلباب الغمائم دونها ... فترى حواجبها خلال خصاص
وروى الأصمعي بدل بيضاء صافية المدامع: صفراء صافية المدامع، ولعله آخذ هذه الرواية عن الإمام، وكان أعرف الناس بلغة قومه، وكانوا يذكرون المرأة التي يشوب بياضها صفرة وإنما يكون ذلك من الطيب والنعمة حتى تكون المرأة كأنها فضة قد مسها ذهب، وكان حسان -رضوان الله عليه- ينشد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شعر الأعشى، وما كفه صلوات الله وسلامه علبيه إلا عن قصيدة هجا بها علقمة بن علاثة، وكانت له يد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذت أمنا عائشة رضي الله عنها الشعر عن أبيها وكان أعلم الناس بشعر العرب وكانت رضوان الله عليها تحفظ شعر لبيد.
ولم أعرف واحدا من علمائنا تأثم برواية شعر إلا ما كان من هجاء شعراء قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك إعظاما لمكانه صلوات الله وسلامه عليه، وقد علق الطاهر بن عاشور صاحب التفسير الجامع على ديوان بشار وحققه ودققه وشرحه أحسن شرح، والشيخ الطاهر من أفاضل العلماء.
وإنما ساقنا إلى هذا ما تؤكده هو مؤكد في كلام علمائنا وهو أن دراسة الشعر وتفقده وتذوقه ومعرفة فنونه وطرائق الشعراء كل ذلك أصل وأساس في الدراسة البلاغية لا يقوم شيء منها إلا عليه، وتأمل مثل قول عبد القاهر: إنك لا تزال ترى شعرًا يروقك مسمعه ويلطف لديك موقعه ثم تسأ لعن سبب أن راقك إلى آخره تجد أن قدرتك على التذوق هي بداية الطريق في البلاغة فإذا لم توجد هذه القدرة فليس هناك طريق ولا بلاغة.
وقد ذكرت أن أسماء مؤلفات علمائنا لها دلالات وذكرت من ذلك أساس

الصفحة 9