كتاب فن التحرير العربي

لقد رووا عن سقراط أنه قال: "إن الفضيلة هي المعرفة". وناقشوه في رأيه وأبانوا خطأه، واستدلوا بأن العلم قد يكون في ناحية والعمل في ناحية، وكثيرًا ما رأينا أعرف الناس بمضار الخمر شاربها، وبمضار القمار لاعبه، ولكن لو قال سقراط أن الفضيلة هي العقيدة، لم أعرف وجهًا للرد عليه، فالعقيدة تستتبع العمل على دفعها لا محالة - قد ترى أن الكرم فضيلة ثم تبخل، والشجاعة خير ثم تجبن، ولكن محال أن تؤمن بالشجاعة والكرم، ثم تجبن أو تبخل.
العقيدة حق مشاع بين الناس على السواء، تجدها في السذج وفي الأوساط وفي الفلاسفة، وما الرأي إلا للخاصة الذين يعرفون الدليل وأنواعه والقياس وأشكاله، والناس يسيرون في الحياة بعقيدتهم، أكثر مما يسيرون بآرائهم، والمؤمن يرى بعقيدته ما لا يرى الباحث برأيه، قد منح المؤمن من الحواس الباطنة والذوق ما قصر عن إدراكه القياس والدليل.
لقد ضل من طلب الإيمان بعلم الكلام وحججه وبراهينه؛ فنتيجة ذلك كله عواصف في الدماغ أقصى أن تنتج رأيًا، أما الإيمان والعقيدة فموطنها القلب، ورسائلها مد خيوط بين الأشجار والأزهار والبحار والأنهار وبين قلب الإنسان، ومن أجل هذا كانت: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:19،18،17] . أفعل في الإيمان من قولهم "العلم متغير وكل متغير حادث" فالأول عقيدة، والثاني رأي.
الناس إنما يخضعون لذي العقيدة، وليس ذوو الرأي إلا ثرثارين، عنوا بظواهر الحجج أكثر مما عنوا بالواقع، لا يزالون يتجادلون في آرائهم حتى يأتي ذو العقيدة فيكتسحهم.
قد يجود الرأي، وقد ينفع، وقد ينير الظلام، وقد يظهر الصواب؛ ولكن لا قيمة لذلك كله ما لم تدعمه العقيدة، وقلَّ أن تؤتي أمة من نقص الرأي ولكن

الصفحة 162