كتاب النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح

«ويح عمار .... يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار»، قال: «يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن»
كلمة (ويح) للتعجب. رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشتداد عمَّار في بناء المسجد، وذكر قوة إيمانه أيام كان بمكة يعذبه المشركون، ويعذبون أمه سُمَيَّة على الإسلام حتى اضطروه إلى كتمان إسلامه، واقتنعوا منه بذلك، ونزل فيه قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]. فكان في حالة تلك شبيهًا بحال مؤمن آل فرعون الذي يكتم إيمانه حين قال لقومه: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر: 41]، أي أدعوكم إلى الإيمان وتدعونني إلى البقاء على الكفر.
فشبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حال عمَّار تلك بحال مؤمن آل فرعون تشبيهًا تمثيليًا مَكنيا، أي مضمرًا في النفس. ورمز إليه بذكر ما عُرف عند السامعين من أحوال قصة مؤمن آل فرعون، وهو أنه يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النَّار. فاقتبسها لحال عمَّار مع المشركين، يذكِّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسابق ثباته على إيمانه، ويشبهه بالمخلصين من سلف أهل الإيمان، ويذكر له مزيته في ذلك الجم الغفير، حين بناء المسجد، فلذلك يقول عمار، وقد ذكر حاله السالفة: «أعوذ الله من الفتن» أي من العود إلى الافتتان في الدين، فضمير الجمع في قوله: «يدعوهم- ويدعونه» عائد إلى المشركين المستفاد من المقام من ذكر حال عمار ومنقبته. ومن زعم أن كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنذار لعمَّار بما يحصل له مع أصحاب معاوية - رضي الله عنه -، فقد أخطأ؛ إذ لا يستقيم شيء منه، لأن عمارًا لم يدع أهل الشام إلى دعوة، ولا دعاة أهل الشام، ولا جنة ولا نار في حال الفريقين؛ لأن ما جرى بينهم إنما هي تصاريف من الاجتهاد في التصرف في أمور الجامعة الإسلامية، وكلا الفريقين مأجور. وذلك اعتقاد سلفنا من أئمة الهدى.
وأما ما ورد «أن عمارًا تقتله الفئة الباغية» فلم يصح؛ على أنه لو صحَّ لكان أمرًا آخر غير ما نحن بصدده.
* * *

الصفحة 19