كتاب النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح

فالمقصود تفاضل أنواع الأعمال، وليس المقصود أن أنواع الأعمال لا تتفاوت إذا وقعت في أيام العشر، وقول السائل نشأ عن اعتقاد أن فضل الجهاد لعظمة قدره لا يقبل التفاوت، فلا يكون الجهاد الواقع في الأيام العشر أفضل من الجهاد في غيرها، فبيَّن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الجهاد كغيره من الأعمال إذا وقع في هذه الأيام كان أفضل منه إذا وقع في غيرها.
فقول السائل: «ولا الجهاد؟ » عطف تلقين على قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما العمل؟ » فيكون التقدير: ما الأعمال ولا الجهاد في أيام بأفضل من أنواعه في هذه الأيام، ولو بلغ ما بلغ من صفات الكمال غير الزمان.
ثم استثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جهادًا يقع على صفة عظيمة فيكون بذلك أفضل من نوعه إذا وقع في الأيام العشر على غير تلك الصفة، وهو الجهاد الذي تعقبه الشهادة في غير أيام العشر، فهو أفضل من جهاد لا تعقبه الشهادة في أيام العشر. فهذا نوع واحد من العمل تفاضل بصفته ولم يتفاضل بوقوعه في أيام العشر.
ثم من المعلوم أن الجهاد المعقب بالشهادة في أيام العشر هو أفضل من مثله الواقع في غير أيام العشر. فقد استوعب هذا الكلام النبوي الأقسام كلها بمنطوقه ومفهومه وفحواه.
* * *

باب العلم الذي بالمصلى
وقع فيه قول ابن عباس [2: 26، 17]:
(شهِدتُ الْعِيدَ مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَلَوْلا مكانِي مِنَ الصَّغَرِ مَا شَهِدْتُهُ).
فالمكان فيه بمعنى القرب. يقول العرب: لفلان مكان عند فلان، ويقولون: مكانه أيضًا، كما يقال: دار ودارة، فهو مجاز مرسل عن الملازمة والقرب. والمراد: مكاني من النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في رواية أخرى: «ولولا مَكَانِي منه».
وقوله: «مِنَ الصِّغَر» متعلق بـ «شهدتُه»، و (من) فيه تعليلية للفعل المنفي، أي ما شهدتُ العيد، إذ لا يشهده الصغار. والمعنى: أنه شهده لما له من التقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
* * *

الصفحة 24