كتاب الإشارات الإلهية إلي المباحث الأصولية

اِقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) [البقرة: ٢٥٣] اعلم أن للرسل مراتب وهم درجات عند الله، وإنما ورد النهي عن التفضيل بينهم لئلا يوهم ذلك الغض من المفضول [منهم] وتنقصه، وجانبهم مصون عن مثل ذلك، وهذه من مسائل الرسل من أصول الدين نحن ذكرناها وقليلا ما تذكر.
{مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ} [البقرة: ٢٥٣] يحتج به من يرى القرآن وكلام الله-عز وجل -هو العبارات المسموعة، وأنه-عز وجل-يتكلم بحرف وصوت قالوا: والإشارة إلى موسى الكليم، ولولا أنه كلمه كلاما مسموعا/ [٦٢/م] عرفا لما كانت له خصيصة على غيره إذ قد كلم الله-عز وجل-غيره وحيا وإلهاما وغير ذلك، فدل على أن لكلامه موسى خصيصة على الجميع، وليس إلا لما ذكرنا من أنه كلمه بكلام مسموع.
وأجاب الأشعرية [وسائر أهل الحق] بأن الله-عز وجل-كما ترى ذاته وليست جوهرا ولا عرضا كذلك يفهم كلامه وليس بصوت ولا حرف، وأكثر ما فيه خلاف العادة والمألوف في الشاهد وهو مشترك بين المسألتين، وهذا النائم يفهم الكلام في النوم من غير صوت ولا حرف في الخارج، ومعتمد هؤلاء أن الصوت والحرف لا يعقل إلا من جسم، والله-عز وجل-ليس بجسم، ومعتمد الآخرين أن الكلام المفهوم لا يعقل إلا/ [٣٠ ب/م] بصوت وحرف، وربما أجاب الأولون بأن الكتابة والإشارة تفهم المراد، ولا صوت ولا حرف، وأيضا كما أن تأثيره-عز وجل-في إيجاد خلقه بلا علاج كذلك تأثيره في أسماعهم وأفهامهم بلا صوت ولا حرف ولا حركة، وكما أنه يرى بلا جارحة ولا انطباع ولا خروج شعاع، كذلك يتكلم بلا حركة [ولا صوت ولا حرف].
{وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اِقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ} (٢٥٣) [البقرة: ٢٥٣] يحتج به الجمهور على أن الله-عز وجل-مريد لجميع الكائنات خيرها وشرها؛ لأن اقتتال هؤلاء المشار إليهم شر، وقد أخبر أنه بإرادته، وأنه لو شاء أن لا يكون لما يكون.
والمعتزلة هاهنا يضطرون ويتلجلجون، وإلى التأويلات البعيدة جدا يلجأون؛ كقولهم:
لو شاء الله إجبارهم على ترك الاقتتال لأجبرهم عليه، فلم يقتتلوا، ولكنه تركهم واختيارهم، فلذلك اقتتلوا وهو كما تراه، وهذا هو جوابهم في كل موضع ذكرت فيه المشيئة وظاهرها عليهم يتأولون الإجبار.

الصفحة 104