كتاب الإشارات الإلهية إلي المباحث الأصولية

أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اِجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ اُدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاِعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠) [البقرة: ٢٦٠].
اعلم أن من الناس من زعم أن إبراهيم شك في القدرة على إحياء الموتى/ [٦٦/ل] حكاه القرطبي عن الطبري، واحتج بقوله عليه الصلاة والسّلام: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» (١) وليس هذا بشيء، إذ برهان القدرة واضح، فكيف يخفى مثله على إبراهيم مع استخراجه حدوث العالم وقدم/ [٣٢، /م] الصانع بلطيف النظر من أفول الكوكب والشمس والقمر، وإذا كنا لا نظن ذلك بذي النون حيث {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ} (٨٧) [الأنبياء: ٨٧] حتى تأولناه على خلاف ظاهره مما يدفع ذلك عنه مع أن رتبة إبراهيم أعلى منه فكيف نظنه بإبراهيم.
وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم «نحن أحق بالشك من إبراهيم» فليس معناه إثبات الشك من إبراهيم، وإنما هي نفي للشك عنه بطريق أولى، ومعناه لو شك إبراهيم لكنا [بالشك أولى] منه؛ لقصورنا في المعرفة عنه، لكنا نحن لم نشك فإبراهيم أولى أن لا يشك، وهذا تأويل جيد للحديث، ثم أورد بعضهم هاهنا سؤالا وهو: أن قول إبراهيم: بلى. يقتضي أنه آمن، أي:
بلى آمنت، وقوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: ٢٦٠] يقتضي أن قلبه لم يطمئن إلى الآن، لكن الإيمان تلزمه الطمأنينة وحينئذ يصير كأنه قال: آمنت ما آمنت، أو اطمأن قلبي ولم يطمئن وهو تناقض.
والجواب: [أنه قد قيل: معناه، بلى] آمنت بالقدرة، ولكن ليطمئن قلبي بالخلة، وكان قد جعل إظهاره على إحياء الموتى علامة على اتخاذه خليلا، وعلى هذا فلا تناقض، وهذا وإن كان قريبا ممكنا غير أن المختار غيره، وهو الإيمان يستند إلى العلم والعلم له مراتب:
علم اليقين هو ما حصل عن النظر والاستدلال، وعين اليقين وهو ما حصل على شهادة وعيان، وحق اليقين وهو ما حصل عن العيان مع المباشرة، فالأول كمن علم بالعادة أن في البحر ماء.

الصفحة 109