كتاب الإشارات الإلهية إلي المباحث الأصولية

النظم الواضح يقتضي أن يقال: «إنما الربا مثل البيع» فالعدول إلى عكسه غير متضح، والجواب أن الكفار إنما أرادوا بقولهم {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} [البقرة: ٢٧٥] المناقضة والإلزام كأنهم قالوا: يعاب علينا الربا والبيع مثله، فمن أنكر علينا الربا لحصول التغابن فيه لزمه إنكار البيع لحصول التغابن فيه. / [٦٩/ل].
ولو قالوا: إنما الربا مثل البيع، لكان ذلك قياسا، كأنه قيل: الربا صفقة تضمنت تفاضلا وتغابنا فكان حلالا كالبيع، [لكن هؤلاء إنما قصدوا] الإلزام والمناقضة لا القياس والمماثلة، وإنما ذكرنا هذا لكونه سؤالا كثير إيراده واستشكاله، ولتعلقه بالقياس [والنص والإلزام]، وذلك من مسائل أصول الفقه.
{وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: ٢٧٥] هذا فيه حجة قوية للظاهرية في اعتبارهم الظواهر السمعية، دون العلل القياسية، وتقرير ذلك أن أكلة الربا لما أوردوا مناقضتهم المذكورة أجابهم الله-عز وجل-بالحكم الإلهي فقال: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: ٢٧٥] فيجب عليكم متابعة هذا الحكم المنصوص، ولم يحتج عليهم بحكمة تحريم الربا المناسبة مع أنها ظاهرة مؤثرة، وهي أن الربا إنما يكون مع اتحاد الجنس أو العلة، فالغبن فيه لازم لا يستدرك بخلاف البيع، فإنه يكون مع اختلاف الجنس فالغبن فيه يمكن استدراكه، مثاله: لو اشترى ثوبا بعشرين وهو/ [٣٣ ب/م] يساوي عشرة، أمكن أن تبيعه بعشرين أو أكثر، لرغبة أو ارتفاع سوق ونحوه، أما لو اشترى مد قمح بمدين، فيبعد أن يرد له المد الواحد مدين [إلا ويرد] المدان البائع أربعة أمداد، اللهم إلا أن يختلفا بالجودة والرداءة بحيث يساوي المد الجيد مدين رديئين.
لكن الجودة الرداءة هاهنا غير معتبرة طردا للباب في المنع، ولو كانت هذه الحكمة القياسية حجة لاحتج بها عليهم؛ لأنها أشبه بإلزامهم المذكور، وأقرب إلى عقولهم، فلما لم يحتج عليهم بها بل بالنص القاطع للحجة، دل على، لا حجة في العلل والمناسبات وصار هذا كما قال لإبليس: {قالَ ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} (١٢) [الأعراف: ١٢]، احتج عليه بالأمر، ولم يسمع منه علته الفلسفية المزخرفة، وهي قوله: {قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (١٢) [الأعراف: ١٢].
وقد كان يمكنه أن يعارضه بأحسن منها وأنس في العقل، وهو أن الطين ثابت ورزين متواضع لين رطبن والنار مضطربة خفيفة، مستعلية يابسة شريرة محرقة.

الصفحة 113