كتاب ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل (اسم الجزء: 1)

جواب قوم نوح: "ما نراك إلا بشرا مثلنا "إلى آخر كلامهم كلام لا يستقل مبتدأ به بل يستدعى ما يبنى عليه إذ لا يفتتح أحد أحدا مبتدئا بمثل هذا وإنما يتكلم بهذا جوابا ولما قال لهم نوح عليه السلام: "يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره " إلى ما عرفهم به مما حصل منه الإعلام بمقامه النبوى جاوبوه بعدا عن تعرف صدقة ومعرفة حقه بقولهم: "ما نراك إلا بشرا مثلنا "، أى لو كنت كما تزعم لكنت من جنس الملائكة ولم تكن من جنس البشر وقد أفصحوا بهذا فى سورة المؤمنين وتكرر هذا المرتكب من غيرهم فى غير ما آية فلبناء هذا الكلام على ما قبله وتمحض الجوابية فيه ورد بالفاء المقتضية السببية والمبنية للجوابية ومثل هذا من غير فرق هو والوارد من جوابهم فى سورة المؤمنين من قولهم: "ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم "، ثم قالوا: "ولو شاء الله لأنزل ملائكة " وهذا هو الذى أشرنا إليه من مقالهم فى هاتين السورتين بالفاء لربط الجوابية وضوح السببية وأما قوله فى سورة الأعراف: "قال الملأ من قومه إنا لنراك فى ضلال مبين " فإن هذا وإن تضمن الجوابية فإنه كلام يستأنف ويبتدأ بمثله ولا يفتقر إلى ما يبنى عليه فناسب ذلك وروده بغير الفاء وحصلت الجوابية من حيث المعنى مع رعى ما يناسب فى النظم ونظير هذا فى وروده بغير الفاء لما ذكر قوله تعالى فى قصة هود عليه السلام: "قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك فى سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين " فتأمل جوابهم هنا لما كان الوارد فى قصة نوح عليه السلام فى أنه يبتدأ بمثله ولا يفتقر إلى ما يبنى عليه كيف ورد بغير الفاء فهذا يزيدك وضوحا فيما قدمناه والله سبحانه أعلم.
والجواب عن السؤال الثالث: ويتنزل على تمهيد هو أن الله تعالى أمر رسله عليهم السلام بالرفق فى دعاء الخلق وحضهم على التلطف بهم والصبر على آذاهم فقال: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن " وقال تعالى: "واصبر على ما يقولون " وقال: "لست عليهم بمصيطر " وقال تعالى: "ودع أذاهم " وقال تعالى: "إن عليك إلا البلاغ "وقال: "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك " وهذا كثير وقال تعالى لموسى وهارون: "اذهبا إلى فرعون أنه طغى فقولا له قولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " وعلى هذا جرى دعاء الرسل أممهم فى إخبار الله تعالى عنهم وتأمل ما تحمل من التلطف والرفق بالعباد قول الله سبحانه:

الصفحة 194