كتاب ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل (اسم الجزء: 1)

تعالى: "ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ".
فنهاهم الله بسحانه ولم يجر مع هذا النهى ذكر جزاء فى هذه الآية بل تذكير ودعاء إلى ما به نجاتهم واستلطف فى الدعاء ألا ترى أنه تعالى أمرهم بسلوك طريق المتقين قال تعالى: "وأقيموا الصلاة ...
" إلى مابعدها فتضمن من التلطف فى الدعاء مع الايماء إلى مرتكباتهم والاضراب عما يستوجب فاعل ذلك ما يوضح للمعتبر عظيم رفقه سبحانه وجليل حلمه فلما لم يجد ذلك عليهم وكتموا بعد أن حذروا عن الكتم وردت الآية بعد معرفة بجزاء من كتم بعد أن حذر فقال تعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس فى الكتاب ....
الآية "، فذكر حال الكاتمين وجزاءهم المترتب على فعلهم من استحقاق اللعن من الله سبحانه وممن ذكر من عباده واللعن الطرد والابعاد ثم إنه سبحانه تدارك من تاب منهم وأصلح وبين بعد أن كان كتم فلما بين فى هذه الآية أمر هؤلاء أعقب فى الأخرى بعد ذكر حال المتمادين على مرتكبهم من الكتم وما زادوا إلى ذلك من اشترائهم به ثمنا قليلا وحظا من دنياهم لا خطر له وذكر ما زيدوا فى الجزاء من العقاب موازنة لزيادة المرتكب فقيل: " أولئك ما يأكلون فى بطونهم الا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم "، ولم يذكر لهؤلاء حال توبة إن تابوا لسوء المرتكب، وليس المراد أنهم لا توبة لهم ولكن عدم ذكرها أوقع فى الاغلاظ لما ذكر من سوء مرتكبهم ليجرى مع قوله تعالى: "ولا يزكيهم "، فإن التزكية تطهير من الاثم ومحوله وذلك هو الذى تثمره التوبة النصوح فلم يكن ليلائم هنا ذكر التوبة وليناسب بذلك أيضا ما عرفت به الآية بعد من حالهم الاخراوى فى قوله تعالى: "أولئك الذين استروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار "، فلما عرف بهذه الغاية من جزائهم لم يكن ليناسب
ذلك ذكر التوبة.
ووجه المراد فى هذه الآية من قوله: "أولئك ما يأكلون فى بطونهم الا النار " وتخصيصها بهذا إنما هو لما تقدم من قوله تعالى قبل هذه الآية: "يأيها الناس كلوا مما فى الأرض حلالا طيبا " وقوله: "يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم "، ذكر تعالى لهؤلاء ما أحل لهم أكله وما حرم عليهم، فلما تقدم هذا أتبعه بإعلام هؤلاء الآكلين بالتحريف والتبديل بخبث مأكلهم وشنيع مشتراهم، وأنه لو كشف عن أبصارهم لرأوا أنهم إنما يأكلون نارا.
وقيل: "وفى بطونهم " لأن الأكل كأنه ضمن معنى الجعل إذ النار فى المعهود المعلوم لا تؤكل فكأن قد قيل:

الصفحة 60