كتاب تسلية أهل المصائب

لذاذات دنياك مسمومة ... فما تأكل الشهد إلا بسم
إذا تم أمر بدا نقصه ... توقع زلولاً إذا قيل تم
وكما قيل في المعنى:
حكم المنية في البرية جار ... ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يرى الإنسان فيها مخبراً ... حتى يرى خبراً من الأخبار
طبعت على كدر وأنت تريدها ...
... صفواً من الأقذاء والأكدار
وقال بعض السلف: احذروا دار الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت، فإنهما يفرقان بين المرء وزوجه، والدنيا تفرق بين العبد وربه.
وذكر ابن أبي الدنيا هذا الأثر مرفوعاً، قال جعفر بن سليمان: سمعت مالكاً يقول: اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء ـ يعني الدنيا ـ.
وذكر ابن أبي الدنيا بإسناده إلى الحسن البصري أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة، وإنما أنزل إليها آدم عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها، والغنى منها فقرها، لها في كل حين قتيل، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه فكن كالمداوي جراحته، يحتمي قليلاً، مخافة ما يكره طويلاً، ويصبر على شدة الدواء، مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرارة الحيالة الخداعة، التي ازينت بخدعها وفتنت بغرورها، وختلت بآمالها، وتشرفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المجلية، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فلا الباقي بالماضي معتبر، ولا الآخر على الأول مزدجر، ولا العارف بالله عز وجل حين أخبر عنها مدكر، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسي المعاد، فشغل فيها لبه حتى زالت عنها قدمه، فعظمت ندامته، وكثرت حسرته، فخرج بغير زاد، وقدم على غير مهاد، فاحذرها يا أمير المؤمنين، وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور، أشخصه إلى مكروه، قد وصل

الصفحة 248