الدعوة القرآنى. فالقرآن لا يتخذ موقفاً من المشكلة الكلامية الخاصة بالقدر، ولا المشكلة الفلسفية الخاصة بطبيعة الاختيار. فهو يثير سر العلاقات بين المخلوق والخالق. وكذلك فإنه لا يتخذ موقفاً من طبيعة الشر: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وهو تأكيد طبق كثيراً من بعد على كل فعل يصدر عن الإنسان؛ ومع ذلك فإن {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ... } [النساء: 79]. وليس فى هذا شئ يقتضى التسليم بالطبيعة الإيجابية للشر.
ولا تنسى آيات القرآن الكريم عن التصريح بأنه لا مهرب لشئ من الله ومن إرادته وقدرته وأن الله أيضاً هو الذى يأتى بالعقاب، بل إن فكرة العقاب نجدها مسيطرة على نحو ما. فهو يثيب الذى اتقى ويعاقب {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 16] ويلعن أولئك الذين يمنعون الماعون (سورة الماعون، الآية 7). ويلاحظ الأستاذ بلاشير فى فهرسه (جـ 3، ص 1223) أن هناك ما بين مائتى آية وثلثمائة آية تنذر بالعقاب بالمحاسبة على أفعال الإنسان. وفى يوم القيامة تجزى كل نفس بما كسبت: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]. فضرورة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هى من الأوامر الأولى، ويجوز للمرء أن يقول إنها هى المبداة على الجميع، ما دام أن الدعوة إلى الخير التى لها الصدارة هى الجهر بالإيمان بالواحد، أى الإسلام الصادق. ولا يوجه هذا الأمر إلى كل إنسان على حدة فحسب، وإنما يوجه على وجه التحديد إلى جماعة المؤمنين بصفتهم هذه (سورة آل عمران، الآيتان 104، 110 ... إلخ)، والإنسان يجازى على الصعيد الدنيوى بمقدار طاعته لأوامر الله على هذه الأرض الفانية.
أما على الصعيد الأبدى لأوامر الله الباقية فإن المشهد يتغير، إذ لا يمكن أن يؤثر شئ على إرادة الله ولا على أمره. والمصطفون هم الذين يختارهم الله: { ... إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ... } [آل عمران: 73]