كتاب منحة السلوك في شرح تحفة الملوك

سدت مسد مفعولي "اعلم" وقوله: "وفقك الله .. إلى آخره) جملة دعائية معترضة، ولا شك أن سعادة الدنيا فانية، لأنا نعلم بعين اليقين فناء الخلق وتغيرات الزمان، ونعلم بعلم اليقين: أن سعادة الآخرة باقية، لما أن الله تعالى أخبر في كتابه الكريم في مواضع كثيرة: بأن عز الآخر وسعادتها باقية.
والعجب من العاقل كيف يختار الدنيا الفانية على الآخرة الباقية؟ مع أنها ملعونة في لسان الشارع، وهو قوله عليه السلام: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً" رواه ابن ماجة.
ولكن الحرص المركب من الشهوة والهوى جذبه إلى ذلك وأحبه إياها، ولو كانت دار الدنيا في الحقيقة من ذهب، ودار الآخرة من خزف، لكنا العاقل يختار الخزف الباقي على الذهب الفاني، فكيف والدنيا خزف فاني والآخرة ذهب باقي.
وقوله: (وسعادة الآخرة) جواب عن سؤال مقدر، فإنه لما قال أولاً: (وسعادة الآخرة باقية) فكأن السائل يقول: بأي شيء تحصل سعادة الآخرة؟ فقال: (وسعادة الآخرة إنما تحصل بتقوى الله) والتقوى: اجتناب محارم الله تعالى، (وهي) أي التقوى: (وصية الله تعالى لجميع الأمم) كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131]، أي ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من الأمم السالفة ووصيناكم أن اتقوا الله، يعني أنها وصية قديمة ما زال يوصي الله بها عباده، لستم بها مخصوصين، لأنهم بالتقوى يسعدون عنده وبها ينالون النجاة في العاقبة.
والتقوى أصل الخير كله، فعليك أيها الأخ بالتقوى والاستعداد للقاء الله عز وجل ونعيم الآخرة، والاستعداد إلى لقاء الله تعالى يكون بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وبذكر الموت والاستعداد له، قال عليه السلام: "أكثروا ذكر هادم اللذات" يعني الموت.

الصفحة 490