كتاب طريق الهجرتين وباب السعادتين

الذى وظيفته تنفيذ أَوامر سيده، فالله هو المالك الحق، وكل ما بيد خلقه هو من أَمواله وأَملاكه وخزائنه أَفاضها عليهم ليمتحنهم فى البذل والإِمساك، وهل يكون ذلك منهم على شاهد العبودية لله عَزَّ وجلَّ، فيبذل أَحدهم الشيء رغبة فى ثواب الله ورهبة من عقابه وتقرباً إِليه وطلباً لمرضاته؟ أَم يكون البذل والإِمساك منهم صادراً عن مراد النفس وغلبة الهوى وموجب الطبع فيعطى لهواه ويمنع لهواه؟ فيكون متصرفاً تصرف المالك لا المملوك، فيكون مصدر تصرفه الهوى ومراد النفس، وغايته الرغبة فيما عند الخلق من جاه أَو رفعة أو منزلة أَو مدح أَو حظ من الحظوظ، أَو الرهبة من فوت شيء من هذه الأَشياء، وإِذا كان مصدر تصرفه وغايته هو هذه الرغبة والرهبة رأَى نفسه لا محالة مالكاً، فادعى الملك وخرج عن حد العبودية ونسى فقره، ولو عرف نفسه حق المعرفة لعلم أَنما هو مملوك ممتحن فى صورة ملك متصرف كما قال تعالى: {ثُمّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14] ، وحقيق بهذا الممتحن أَن يوكل إِلى ما ادعته نفسه من الحالات والمَلَكات مع المالك الحق سبحانه، فإِن من ادعى لنفسه حالة مع الله سبحانه وكل إِليها، ومن وكل إِلى شيء غير الله فقد فتح له باب الهلاك والعطب، وأَغلق عنه باب الفوز والسعادة، فإِن كل شيء ما سوى الله باطل، ومن وكل إِلى الباطل بطل عمله وضل سعيه ولم يحصل إِلا على الحرمان، فكل من تعلق [بشيء غير] الله انقطع به أَحوج ما كان إِليه، كما قال تعالى: {إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّبِعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ} [البقرة: 166] ،
فالأَسباب التى تقطعت بهم هى العلائق التى بغير الله ولغير الله، تقطعت بهم أَحوج ما كانوا إليها، وذلك لأَن تلك الغايات لما اضمحلت وبطلت اضمحلت أَسبابها وبطلت، فإِن الأَسباب تبطل ببطلان غاياتها وتضمحل باضمحلالها، وكل شيء هالك إِلا وجهه سبحانه، وكل عمل باطل إِلا ما أُريد به وجهه. وكل سعى لغيره باطل ومضمحل، وهذا كما يشاهده الناس فى الدنيا من اضمحلال السعى والعمل والكد والخدمة التى يفعلها العبد لمتولٍ أَو أَمير أَو صاحب منصب أَو مال، فإِذا زال ذلك الذى عمل له عدم ذلك العمل وبطل ذلك السعى ولم يبق فى يده سوى الحرمان، ولهذا يقول الله تعالى يوم

الصفحة 12