كتاب طريق الهجرتين وباب السعادتين

القيامة: "أليس عدلاً منى أَنى أُولى كل رجل منكم ما كان يتولى فى الدنيا"، فيتولى عباد الأصنام والأَوثان أَصنامهم وأَوثانهم فتتساقط بهم فى النار، ويتولى عابدو الشمس والقمر آلهتهم، فإِذا كوِّرت الشمس وانتثرت النجوم اضمحلت تلك العبادة وبطلت وصارت حسرة عليهم: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النّارِ} [البقرة: 167] ، ولهذا كان المشرك من أَخسر الناس صفقة وأغبنهم يوم معاده، فإِنه يحال على مفلس كل الإِفلاس بل على عدم، والموحد حوالته على المليء الكريم، فيا بُعدَ ما بين الحوالتين.
وقوله: "البراءَة من رؤية الملكة" ولم يقل من الملكة لأن الإِنسان قد يكون فقيراً لا ملكة له فى الظاهر وهو عرى عن التحقق بنعت الفقر الممدوح أَهله الذين لا يرون ملكة إلا لمالكها الحق ذى الملك والملكوت، وقد يكون العبد قد فوض إِليه من ذلك شيء وجعل كالخازن فيه، كما كان سليمان بن داود أُوتى ملكاً لا ينبغى لأَحد من بعده، وكذلك الخليل وشعيب والأَغنياءُ من الأَنبياءِ، [عليهم الصلاة والسلام] وكذلك أَغنياءُ الصحابة، فهؤلاء لم يكونوا بريئين من الملكة فى الظاهر وهم بريئون من رؤية الملكة لنفوسهم فلا يرون لها ملكاً حقيقياً، بل يرون ما فى أَيديهم لله عارية ووديعة فى أَيديهم ابتلاهم به لينظر هل يتصرفون فيه تصرف العبيد أَو تصرف الملاك الذين يعطون لهواهم ويمنعون لهواهم، فوجود المال فى يد الفقير ليس يقدح فى فقره، إِنما يقدح فى فقره رؤيته لملكته، فمن عوفى من رؤية الملكة لم يتلوث باطنه بأَوساخ المال وتعبه وتدبيره واختياره، وكان كالخازن لسيده الذى ينفذ أَوامره فى ماله، فهذا لو كان بيده من المال [مثال] جبال الدنيا لم يضره ومن لم يعاف من ذلك ادعت نفسه الملكة وتعلقت به النفس تعلقها بالشيء المحبوب المعشوق، فهو أَكبر همه ومبلغ علمه، إِن أعطى رضى، وإِن منع سخط، فهو عبد الدينار والدرهم، يصبح مهموماً ويمسى كذلك [فيبيت] مضاجعاً له، تفرح نفسه إذا ازداد وتحزن وتأَسف إِذا فات منه شيء، بل يكاد يتلف إِذا توهمت نفسه الفقر وقد يؤثر الموت على الفقر، والأَول مستغن بمولاه المالك الحق الذى بيده خزائن السموات والأَرض، وإِذا أَصاب المال الذى فى يده نائبة رَأَى أَن المالك الحق هو الذى أَصاب مال نفسه فما للعبد وما للجزع والهلع، وإِنما تصرف مالك المال فى ملكه الذى هو وديعة فى يد مملوكه، فله الحكم

الصفحة 13