كتاب طريق الهجرتين وباب السعادتين

..
...
...
والرجوع عن موافقتها فلا يستغنى بها اعتماداً عليها ولا يفتقر إِليها مساكنة لها. ومن نعته أَنه يعمل على موافقة الله [و] الصبر والرضى والتوكل والإِنابة، فهو عامل على مراد الله منه لا على موافقة هواه وهو تحصيل مراده من الله، فالفقير خالص بكليته لله عز وجل، ليس لنفسه ولا لهواه فى أَحواله حظ ولا نصيب، بل عمله بقيام شاهد الحق وفناءِ شاهد نفسه، قد غيبه شاهد الحق عن شاهد نفسه فهو يريد الله بمراد الله، فمعَّوله على الله، وهمته لا تقف دون شيء سواه، قد فنى بحبه عن حب ما سواه وبأَمره عن هواه وبحسن اختياره له عن اختياره لنفسه، فهو فى واد والناس فى واد خاضع متواضع سليم القلب، سلس القيادة للحق، سريع القلب إِلى ذكر الله، بريء من الدعاوى لا يدعى بلسانه ولا بقلبه ولا بحاله، زاهد فى كل ما سوى الله، راغب فى كل ما يقرب إِلى الله، قريب من الناس أَبعد شيء منهم، يأْنس بما يستوحشون منه ويستوحش مما يأْنسون به، متفرد فى طريق طلبه لا تقيّده الرسوم ولا تملكه العوائد ولا يفرح بموجود لا يأْسف على مفقود، من جالسه قرت عينه به ومن رآّه ذكرته رؤيته بالله سبحانه، قد حمل كله ومؤنته عن الناس، واحتمل أذاهم وكف أذاه عنهم، وبذل لهم نصيحته وسبل لهم عرضه ونفسه لا لمعاوضة ولا لذلة وعجز، لا يدخل فيما لا يعنيه ولا يبخل بما لا ينقصه، وصفه الصدق والعفة والإِيثار والتواضع والحلم والوقار والاحتمال، لا يتوقع لما يبذله للناس منهم عوضاً ولا مدحة، لا يعاتب ولا يخاصم ولا يطالب ولا يرى له على أَحد حقاً ولا يرى له على أَحد فضلاً، مقبل على شأْنه مكرم لإِخوانه بخيل بزمانه حافظ للسانه، مسافر فى ليله ونهاره ويقظته ومنامه لا يضع عصا السير عن عاتقه حتى يصل إِلى مطلبه، قد رفع له علم الحب فشمر إِليه، وناداه داعى الإشتياق فأَقبل بكليته عليه، أَجاب منادى المحبة إِذ دعاه حى على الفلاح، ووصل السرى فى بيداءِ الطلب، فحمد عند الوصول سراه، وإِنما يحمد القوم السرى عند الصباح:
فحى على جنات عدن فإِنها ... منازلك الأُولى وفيها المخيم
ولكننا سبى العدو، فهل تري ... نعود إِلى أَوطاننا ونسلم
وحى على روضاتها وخيامها ... وحى على عيش بها ليس يسأم

الصفحة 51