كتاب العاقبة في ذكر الموت

كَمَا روى عَن بعض الْعَالمين وَقد بَكَى عِنْد الْمَوْت فَقيل لَهُ مَا يبكيك فَقَالَ وَالله مَا أبكى لفراق هَذِه الدَّار حرصا على غرس الْأَشْجَار وإجراء الْأَنْهَار لَكِن على مَا يفوتني من الادخار ليَوْم الافتقار والاكتساب ليَوْم الْحساب
قَالَ فِي هَذَا أَو مَعْنَاهُ
أَهْون بداركم الدُّنْيَا وأهليها ... وَاضْرِبْ بهَا صفحات من محبيها
الله يعلم أَنِّي لست وامقها ... وَلَا أُرِيد بَقَاء سَاعَة فِيهَا
لَكِن تمرغت فِي أدناسها حقبا ... وَبت أنشرها حينا وأطويها
أَيَّام أسحب ذيلي فِي ملاعبها ... جهلا وأهدم من ديني وأبنيها
وَكم تحملت فِيهَا غير مكترث ... من شامخات ذنُوب لست أحصيها
فَقلت أبقى لعَلي أهدم مَا ... بنيت مِنْهَا وأدناسي أنقيها
وَمن ورائي عِقَاب لست أقطعها ... حَتَّى أخفف أحمالي وألقيها
يَا ويلتي وبحار الْعَفو زاخرة ... إِن لم تصبني برش فِي تثنيها
وَهَذَا إِذا مَاتَ فيالله دره من ميت مَا أفضل حَيَاته وَأطيب مماته وَأعظم سعادته وَأكْرم وفادته وَأتم سروره وأكمل حبوره
وَاعْلَم أَن هَذَا لَا يدْخل تَحت قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من كره لِقَاء الله كره الله لقاءه لِأَن هَذَا لم يكره لِقَاء الله تَعَالَى لذات اللِّقَاء إِنَّمَا كره أَن يقدم على الله عز وَجل متدنسا بأوضاره ثقيل الظّهْر بأوزاره ملأن من عاره وشناره فَأَرَادَ أَن يتطيب للقاء ويستعد لفصل الْقَضَاء
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِي قلت لأم هَارُون العابدة أتحبين أَن تموتي قَالَت لَا قلت وَلم قَالَت وَالله لَو عصيت مخلوقا لكرهت لقاءه فَكيف بالخالق جلّ جَلَاله

الصفحة 30