كتاب العاقبة في ذكر الموت

هذي يَدَاهُ وَهَذِه أعضاؤه ... مَا مِنْهُ من عُضْو غَدا بمثلم
هَيْهَات مَا خيل الردى محتاجة ... للمشرفي وَلَا السنان اللهذم
هِيَ وَيحكم أَمر الْإِلَه وَحكمه ... وَالله يقْضِي بِالْقضَاءِ الْمُحكم
يَا حسرة لَو كَانَ يقدر قدرهَا ... ومصيبة عظمت وَلما تعظم
خبر علمنَا كلنا بمكانه ... وكأننا فِي حَالنَا لم نعلم
فَكيف إِذا أضَاف إِلَى الفكرة فِي الْمَوْت الفكرة فِيمَا بعد الْمَوْت وَفِي حَال الْمَيِّت ومآله وَمَا يجازي بِهِ من أَقْوَال وأفعال وَفِي أَي متجرفاته وَأي بضَاعَة فرط فِيهَا وَأي علق نَفِيس من الْعُمر ضيعه
هُنَالك تطيش الْأَلْبَاب وتذهل الْعُقُول وتخرس الألسن وتنبذ الدُّنْيَا بالعراء وتطرح بِجَمِيعِ مَا فِيهَا بالوراء
وَقَالَ ابْن السماك رَحمَه الله تَعَالَى إِن الْمَوْتَى لم يبكوا من الْمَوْت وَلَكنهُمْ يَبْكُونَ من حسرة الْفَوْت فَاتَتْهُمْ وَالله دَار لم يتزودوا مِنْهَا ودخلوا دَارا لم يتزودوا لَهَا فأية سَاعَة مرت على من مضى وأية سَاعَة بقيت علينا وَالله إِن المتفكر فِي هَذَا لجدير أَن يتْرك الأوطان ويهجر الخلان ويدع مَا عز وَمَا هان
ويروى أَن ملكا من مُلُوك بني إِسْرَائِيل كَانَ كلما ولد لَهُ ولد فَبلغ مبلغ الرِّجَال وعقل مَا يعقله الرِّجَال لبس مسوحه وَتعلق برؤوس الْجبَال وسلك بطُون الأودية يعبد الله عز وَجل فَلم يزل ذَلِك دأبه حَتَّى ولد لَهُ ولد فشب إِلَى أَن ولد لَهُ ولد فَجمع رِجَاله وخاصته وَقَالَ تعلمُونَ مَا كَانَ من أَمر بني وَأَنه لَيْسَ مِنْهُم وَاحِد بَقِي معي وَلَا الْتفت إِلَيّ وَإنَّهُ لَيْسَ يصلح لكم وَلَا يَسْتَقِيم أَمركُم إِلَّا بِأَن يليكم وَاحِد من وَلَدي وَإِنِّي أَخَاف إِن لم يكن ذَلِك أَن تهلكوا أبهلاكي فَخُذُوا وَلَدي هَذَا فربوه وَقومُوا بأَمْره فَإِذا شب وعقل فزينوا لَهُ الدُّنْيَا وعظموا قدرهَا عِنْده
ثمَّ أَمر فَبنِي لَهُ قصر عَظِيم فرسخا فِي فَرسَخ وَجمع لَهُ المراضع وَأكْثر لَهُ من الحواضن ووكل بِهِ رجَالًا من عقلاء أَصْحَابه ووجوه دولته
وَأمر إِذا فهم وعقل أَن لَا يخرج من ذَلِك الْقصر وَلَا يذكر عِنْده الْمَوْت وَلَا يبصر مَيتا فِي مَوضِع يكون فِيهِ مَخَافَة أَن يسمع بِالْمَوْتِ أَو يرى مَيتا فَيسْأَل عَنهُ

الصفحة 46