كتاب العاقبة في ذكر الموت

فَعمل الْكَلَام فِي نَفسه عمله وَأخذ الْكَلَام فِي قلبه مأخذه فَتغير وَجهه وَضعف جِسْمه وشحب لَونه وأقصر عَمَّا كَانَ فِيهِ من تِلْكَ الراحات وَتلك البطالات
فَأخْبر أَبوهُ بِخَبَرِهِ وَوصف لَهُ حَدِيثه فَقَالَ أَو قد فعلهَا قَالُوا نعم فداراه أَبوهُ بِكُل شَيْء فَلم ينفع فِيهِ شَيْء وهون عَلَيْهِ الْأَمر فَلم يهن وَسَلاهُ فَلم يتسل فَقَالَ لَهُ أَبوهُ لَا جرم وَالله لأدعنك تلْحق بإخوتك فَبعث إِلَيْهِ ثِيَابه من المسوح فلبسها وَخرج فِي جَوف اللَّيْل فَتعلق بالجبال وَلحق بإخوته فتعبد مَعَهم وَكَانَ يَقُول فِي مناجاته اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك أمرا لَيْسَ إِلَيّ قد سبقت بِهِ الْمَقَادِير لَوَدِدْت أَنِّي كنت الطير فِي الْهَوَاء أَو السّمك فِي المَاء وَلم أك شَيْئا مَذْكُورا مَخَافَة الْحساب وَالْعِقَاب
وَاعْلَم رَحِمك الله أَن كَثْرَة الِاشْتِغَال بالدنيا وإفراغ المجهود فِيهَا والميل بالكلبة إِلَيْهَا وحلاوة أحاديثها وَلَذَّة أمانيها تمنع حرارة ذكر الْمَوْت أَن ترد على الْقلب وَأَن تلج فِيهِ لِأَن الْقلب إِذا امْتَلَأَ بِشَيْء لم يكن لشَيْء آخر فِيهِ مدْخل وَلَا لسواه فِيهِ مجَال أَلا ترى أَن الْإِنَاء إِذا ملأته بِشَيْء لم يمكنك أَن تدخل عَلَيْهِ شَيْئا أخر ووجهك إِذا صرفته إِلَى مَوضِع صرفته عَن مَوضِع آخر وَمَتى دَامَ الْقلب على هَذَا لم يكن لذكر الْمَوْت فِيهِ تَأْثِير وَلَا لترداده عَلَيْهِ حلاوة وَكَيف يُؤثر فِيهِ وَهُوَ لَا يجد مَكَانا ينزل فِيهِ وَلَا موضعا يتَعَلَّق بِهِ قد ملأَهُ حب الشَّهَوَات الفانية وَاللَّذَّات المنصرمة فَهُوَ شبعان رَيَّان حيران سَكرَان أَصمّ أعمى إِن عرض عَلَيْهِ طَرِيق هدى لم يره أَو نُودي باجتناب رَدِيء لم يسمع
فَإِذا اراد صَاحب هَذَا الْقلب سَماع الْحِكْمَة وَالِانْتِفَاع بِالْمَوْعِظَةِ لم يكن لَهُ بُد من تفريغه ليجد التَّذَكُّر فِيهِ منزلا وتلقى الموعظ فِيهِ محلا قَابلا فَلَا يزَال يتهاهد ويتفقده بالأذكار والأفكار وَالنَّظَر وَالِاعْتِبَار آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار لِئَلَّا يرجع إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ من الرين وَيعود إِلَى حَالَته الأولى من

الصفحة 49