كتاب درج الدرر في تفسير الآي والسور ط الحكمة (اسم الجزء: 2)

وادعوا أن المحظورات كلها لم تزل (¬1) كذلك من لدن آدم إلى يومنا هذا، وزعموا أن موسى لم يأت بتحريم حادث ولا تحليل إلا فيما اختلفت العقول فيه، فكذَّبهم الله وأخبر أن الكليات كلها كانت حلًّا (¬2) لبني إسرائيل إلا ما حرمها إسرائيل نذرًا، ثم حرم عليهم بعض الطيبات عقوبة لهم، وكانوا كلما أذنبوا ذنبًا عظيمًا حرم عليهم رزق طيب أو سلط عليهم الطاعون. والقصة في نذر إسرائيل أنه اشتكى عرق النسا فنذر إن شفاه الله لا يأكل لحوم الإبل وألبانها لوخامتهما وإضرارهما عند ملازمتهما، وكان من أحبّ الطعام إليه (¬3)، ووجه القربة فيه أنه مخالفة لهوى النفس الأمارة بالسوء (¬4) وقهر لها، ووجه جوازه من ذات نفسه أن الأنبياء -عليهم السلام- كانوا يجتهدون بإذن الله تعالى، يدل عليه حكم داود وسليمان -عليهم السلام- في الحرث وكان حكم سليمان بفهم لا محالة وحكم داود مما يسوغ الاجتهاد في مقابلته لمثله، وكذلك قبل نبينا -عليه السلام- الفداء بالمشاورة (¬5) والاجتهاد ولم يقتل أسارى بدر، وفيه نزل (¬6): {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] الآية
¬__________
(¬1) وهو ما أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 578)؛ والبغوي (6812)؛ وذكره القرطبي (4/ 134)؛ وابن كثير في تفسيره (2/ 62) عن السدي قال: قالت اليهود: إنما نحرم ما حرم إسرائيل على نفسه، وإنما حرَّم إسرائيل العروق، كان يأخذه عِرق النَّسَا، كان يأخذه بالليل، ويتركه بالنهار، فحلف لئِن عافاه الله منه لا يأكل عرقًا أبدًا، فحرمه الله عليهم، ثم قال: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93].
(¬2) في "ب": (كاهلًا).
(¬3) العجاب (2/ 714 - 716).
(¬4) في "ب": (بالسواء).
(¬5) في الأصل: (المشاورة).
(¬6) صحَّ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في نزول هذه الآية قال: كانت الغنائم قبل أن يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمم إذا أصابوا مغنمًا جعلوه للقربان، وحرم الله عليهم أن يأكلوا منه قليلًا أو كثيرًا، حُرِّمَ ذلك على كل نبي وعلى أمته فكانوا لا يأكلون منه، ولا يَغُلُّون منه، ولا يأخذون منه قليلًا ولا كثيرًا إلا عذبهم الله عليه، وكان الله حرَّمه عليهم تحريمًا شديدًا فلم يُحِلَّهُ لنبي إلا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ". وكان قد سبق من الله في قضائه أن المغنم له ولأمته حلال، فذلك قوله يوم بدر في أخذ الفداء من الأسارى {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ ...} [الأنفال: 68] الآية. =

الصفحة 507