كتاب الدليل المغني لشيوخ الإمام أبي الحسن الدارقطني

حفظة الدِّين الّذي هو أس السعادة الباقية، ونقلة العلم الّذي هو المرقاة إلى المراتب العالية، فكمال أحدهم يكسب مؤدَّاه من العلم كمالًا، واختلالها يورث خللًا وخبالًا، وفي المعرفة لهم معرفة من هو أحق بالاقتداء، وأحرى بالاقتفاء، والجاهل بهم من مقتبسة العلم مسوٍّ لا محالة عند اختلافهم بين الغث والسمين، غير مميز بين الرَّث والوزين، وقد روي عن الإمام مسلم بن الحجاج أنّه قال: إنَّ أول ما يجب على مبتغي العلم وطلابه أنّ يعرف مراتب العلماء في العلم، ورجحان بعضهم على بعض؛ ولأن المعرفة بالخواص آصرة ونسب، وهي يوم القيامة وصلة إلى شفاعتهم وسبب؛ ولأن العالم بالنسبة إلى مقتبس علمه بمنزلة الوالد بل أفضل، فإذا كان جاهلًا به فهو كالجاهل بوالده بل أضل (¬1). وقد قيض الله من الحفاظ والوعاة ويسَّر من النقَلَة والرواة طائفة أذهبوا في تقييدهم أعمارهم، وأجالوا في نظم قلائدهم وأفكارهم، فجزاهم الله عنا وعن سنة نبيّنا - صلّى الله عليه وسلم - خير الجزاء، وثقَّل بها موازينهم عند اللِّقاء، وبيَّض بها وجوههم يوم الجزاء، فهم القوم حقًّا لا يشقى جليسهم، وهم الرجال، وسائر من أنّ بعدهم عيال، وما نحن إِلَّا متشبهون، ومحبون، ومؤتسون.
وصدق من قال:
وتشبهوا إنَّ لم تكونوا مثلهم ... إنَّ التَّشَبه بالكرام فلاح
أمّا إدراك شأوهم، وبلوغ فضلهم، وقيل منازلهم، فهيهات هيهات، فالمغرور من ظن أنّه صار بين عشية وضحاها كأحدهم، فقال: هم رجال، ونحن رجال. فضلًا عن أنّ يظن أنّه خير من أدناهم، وما أوتي هذا المغرور إِلَّا من ترك التأدب بآداب المتعلمين، وغفل عن أنّ التخلية قبل التحلية؛ كما قيل (¬2). وتشبهًا بطريقة هؤلاء الأخيار في جمع رواة الأخبار، من الأجزاء والمشيخات، وبطون كتب الأحبار، فقد جمعتُ في هذه الرسالة شيوخ أحد الأئمة الأعلام، الذَّابين عن سنة خير الأنام، عليه أفضل الصّلاة
¬__________
(¬1) انظر مقدمة طبقات الشّافعيّة لابن الصلاح (1/ 74 - 75).
(¬2) انظر "مقدمة تبييض الصحيفة"ص (4).

الصفحة 12