كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد

ابْنَ مَرْيَمَ ْ1} 2 وفي الحديث الصحيح:
أن النبي صلي الله عليه وسلم تلا هذه الآية على عدي بن حاتم الطائي فقال: " يا رسول الله، لسنا نعبدهم. قال: أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى. قال النبي صلي الله عليه وسلم: فتلك عبادتهم " 34.
فصارت طاعتهم في المعصية عبادة لغير الله وبها اتخذوهم أربابا، كما هو الواقع في هذه الأمة، وهذا من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد الذي هو مدلول شهادة لا إله إلا الله.
فتبين بهذه الآية أن كلمة الإخلاص نفت هذا كله لمنافاته لمدلول هذه الكلمة، فأثبتوا ما نفته من الشرك وتركوا ما أثبتته من التوحيد.
وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 5 فكل من اتخذ ندا لله يدعوه من دون الله، ويرغب إليه ويرجوه لما يؤمله منه من قضاء حاجاته وتفريج كرباته - كحال عباد القبور والطواغيت والأصنام - فلا بد أن يعظموهم ويحبوهم
__________
1 الأحبار: هم العلماء. والرهبان: هم العباد. قال السدي: استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. ولهذا قال تعالى في الآية: (وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) فصار ذلك عبادة لهم. وجعلوا أحبارهم ورهبانهم مشرعين في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله; فاتخذوهم بذلك أربابا؛ لأن التشريع من خصائص الربوبية كما أن العبادة من مستحقات الربوبية. وقال تعالى: 3: 80 (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) .
2 في قرة العيون: أي اتخذوه ربا بعبادتهم له من دون الله. وقال تعالى: 5: 117,116 (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتي كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) . فمن تدبر هذه الآيات تبين له معنى "لا إله إلا الله "، وتبين له التوحيد الذي جحده أكثر من يدعي العلم في هذه القرون وما قبلها من متأخري هذه الأمة, وقد عمت البلوى بالجهل بعد القرون الثلاثة لما وقع الغلو في قبور أهل البيت وغيرهم وبنيت عليها المساجد, وبنيت لهم المشاهد، فاتسع الأمر وعظمت الفتنة في الشرك المنافي للتوحيد لما حدث الغلو في الأموات وتعظيمهم بالعبادة. فبهذه الأمور التي وقع فيها الأكثر, وعاد المعروف منكرا والمنكر معروفا, والبدعة سنة والسنة بدعة، نشأ على هذا الصغير, وهرم عليه الكبير، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ, فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس" وفي رواية: " يصلحون ما أفسد الناس ".
3 حسن: الترمذي: كتاب التفسير (3095) : باب ومن سورة التوبة. والبيهقي (10/ 116) وعزو الحديث لأحمد وهم كما أفاده الدوسري. والحديث حسنه الألباني في غاية المرام ص (20) .
4 رواه الإمام أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير مطولا.
5 سورة البقرة آية: 165.

الصفحة 101