كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد

{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} 1. وقد أمر الله تعالى به في مواضع من كتابه كقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 2. وهذا هو دعاء المسألة المتضمن للعبادة; فإن الداعي يرغب إلى المدعو ويخضع له ويتذلل.
وضابط هذا: أن كل أمر شرعه الله لعباده وأمرهم به ففعله لله عبادة، فإذا صرف من تلك العبادة شيئا لغير الله فهو مشرك مصادم لما بعث الله به رسوله من قوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} 3.
وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في الرسالة السنية: "فإذا كان على عهد النبي صلي الله عليه وسلم ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضا من الإسلام لأسباب منها: الغلو في بعض المشايخ; بل الغلو في علي ابن أبي طالب، بل الغلو في المسيح، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني أو أغثني; أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال. فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قُتل؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ ليُعبد وحده لا شريك له، ولا يُدعَى معه إله آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تُنزل المطر أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو يعبدون صورهم، يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 4 {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 5 فبعث الله سبحانه رسله تنهى عن أن يُدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة". اهـ.
وقال أيضا: "من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعا".
نقله عن صاحب الفروع وصاحب الإنصاف وصاحب الإقناع وغيرهم. وذكره شيخ الإسلام ونقلته عنه في الرد على ابن جِرْجيس في مسألة الوسائط.
__________
1 سورة مريم آية: 4.
2 سورة الأعراف آية: 55-56.
3 سورة الزمر آية: 14.
4 سورة الزمر آية: 3.
5 سورة يونس آية: 18.

الصفحة 167