كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد

وأما ما تقدم من كلام شيخ الإسلام، وتبعه العلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى من أن الدعاء نوعان: دعاء مسألة ودعاء عبادة. وما ذكر بينهما من التلازم وتضمن أحدهما للآخر. فذلك باعتبار كون الذاكر والتالي والمصلي والمتقرب بالنسك وغيره طالبا في المعنى. فيدخل في مسمى الدعاء بهذا الاعتبار، وقد شرع الله تعالى في الصلاة الشرعية من دعاء المسألة ما لا تصح الصلاة إلا به; كما في الفاتحة وبين السجدتين وفي التشهد، وذلك عبادة كالركوع والسجود. فتدبر هذا المقام يتبين لك جهل الجاهلين بالتوحيد.
ومما يبين هذا المقام ويزيده إيضاحا قول العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ} 1: وهذا الدعاء المشهور أنه دعاء المسألة. قالوا: كان النبي صلي الله عليه وسلم يدعو ربه ويقول مرة: "يا الله"، ومرة: "يا رحمن"، فظن المشركون أنه يدعو إلهين فأنزل الله هذه الآية. ذكر هذا عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وقيل: إن الدعاء هنا بمعنى التسمية، والمعنى: أيّ اسم سميتموه به من أسماء الله تعالى، إما "الله" وإما "الرحمن" فله الأسماء الحسنى. وهذا من لوازم المعنى في الآية. وليس هو عين المراد. بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطّرد في القرآن. وهو دعاء السؤال ودعاء الثناء.
ثم قال: إذا عرف هذا فقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} 2 يتناول نوعي الدعاء لكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، ولهذا أمر بإخفائه. قال الحسن: "بين دعاء السر ودون العلانية سبعون ضعفا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولم يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم". وقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 3 يتناول نوعي الدعاء، وبكل منهما فسرت الآية. قيل: أعطيه إذا سألني، وقيل: أثيبه إذا عبدني; وليس هذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، بل هذا استعماله في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعا. وهذا يأتي في مسألة الصلاة وأنها نقلت عن مسماها في اللغة وصارت حقيقة شرعية، واستعملت في هذه العبادة مجازا للعلاقة بينهما وبين المسمى اللغوي، وهي باقية على الوضع اللغوي، وضم إليها أركان وشرائط. فعلى ما قررناه لا حاجة إلى شيء من ذلك؛ فإن المصلي من أول صلاته إلى آخرها لا ينفك عن دعاء: إما دعاء عبادة وثناء، أو دعاء طلب ومسألة، وهو في الحالين داع. اهـ مخلصا من البدائع.
__________
1 سورة الإسراء آية: 110.
2 سورة الأعراف آية: 55.
3 سورة البقرة آية: 186.

الصفحة 176