كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد

وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك أن النبي صلي الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال: " يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك - ثلاثا - قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله تعالى على النار. قال: يا رسول الله، أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: إذا يتكلوا. فأخبر بها معاذ عند موته تأثما " 1 وساق بسند آخر: حدثنا معتمر قال: سمعت أبي، قال: سمعت أنسا قال: ذكر لي أن النبي صلي الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: " من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة. قال: ألا أبشر الناس؟ قال: لا، إني أخاف أن يتكلوا ".
قلت: فتبين بهذا السياق معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنها تتضمن ترك الشرك لمن قالها بصدق ويقين وإخلاص.
قال شيخ الإسلام وغيره: في هذا الحديث ونحوه أنها فيمن قالها ومات عليها، كما جاءت مقيدة بقوله: "خالصا من قلبه غير شاك فيها بصدق ويقين" فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة؛ لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحا، فإذا مات على تلك الحال نال ذلك، فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه: " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة " 2.
وتواترت بأن كثيرا ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها، وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله، ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص، وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليدا أو عادة، ولم تخالط حلاوة الإيمان بشاشة قلبه. وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء، كما في الحديث: "سمعت الناس يقولون شيئا فقلته3 ". وغالب أعمال هؤلاء إنما هي تقليد واقتداء بأمثالهم، وهم من أقرب الناس من قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 4.
__________
1 البخاري: العلم (128) , ومسلم: الإيمان (32) .
2 البخاري: التوحيد (7410) , ومسلم: الإيمان (193) , والترمذي: صفة جهنم (2593) , وابن ماجه: الزهد (4312) , وأحمد (3/116 ,3/173 ,3/276) .
3 في حديث البراء بن عازب الذي رواه أصحاب السنن وغيرهم في سؤال القبر.
4 سورة الزخرف آية: 23.

الصفحة 46