كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد

السبع ومن فيهن من العمار غير الله تعالى، والأرضين السبع ومن فيهن، وضعوا في كفة الميزان ولا إله إلا الله في الكفة الأخرى، مالت بهن لا إله إلا الله.
=وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلي الله عليه وسلم: " أن نوحا - عليه السلام - قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ولا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة لقصمتهن لا إله إلا الله " 1.
قوله: "في كفة" هو بكسر الكاف وتشديد الفاء، أي كفة الميزان.
قوله: "مالت بهن" أي رجحت. وذلك لما اشتملت عليه من نفي الشرك، وتوحيد الله الذي هو أفضل الأعمال. وأساس الملة والدين، فمن قالها بإخلاص ويقين، وعمل بمقتضاها ولوازمها وحقوقها، واستقام على ذلك، فهذه الحسنة لا يوازنها شيء; كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 2.
ودل الحديث على أن "لا إله الا الله" أفضل الذكر. كحديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: وعلو القدر وعلو الذات. فالثلاثة كلها صفته ودلت على كماله كما قال تعالى: 5: 20 (الرحمن على العرش استوى) 59: 25 (ثم استوى على العرش الرحمن) الآية. في سبعة مواضع من كتابه (53: 7 و3: 1 و13: 2 و32: 4 و4: 47) كما قال تعالى: 10: 35 (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) وقال تعالى: 50: 16 (يخافون ربهم من فوقهم) وقال تعالى: 4: 70 (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) 55: 3 (إني متوفيك ورافعك إلي) وأمثال هذه الآيات. فمن سلب علو الله تعالى على خلقه فقد خالف صريح الكتاب والسنة، وألحد في أسمائه وصفاته ومعنى هذه الكلمة: نفي الإلهية عن كل شيء سوى ما استثنى بها وهو الله تعالى. لكن هذه الكلمة العظيمة لا يحصل رجحانها إلا في حق من أتى بقيودها التي قيدت بها في الكتاب والسنة, وقد ذكر الله سبحانه في سورة براءة وغيرها كثيرا ممن يقولها ولم ينفعهم قولها، كحال أهل الكتاب والمنافقين على كثرتهم وتنوعهم في نفاقهم، فلم تنفعهم مع ما قام بهم من ترك تلك القيود. (فمنهم) من يقولها جاهلا بما وضعت له، وبما دلت عليه من نفي الشرك والبراءة منه، والصدق والإخلاص وغيرها. كعدم القبول ممن دعي إليها علما وعملا, وترك الانقياد بالعمل بما تقتضيه كحال أكثر من يقولها قديما وحديثا, ولكن في أواخر هذه الأمة أكثر. (ومنهم) من يمنعه من محبتها والعمل بها ما قام بقلبه من كبر أو هوى أو غير ذلك من الأسباب وهي كثيرة، منها: قوله تعالى: 24: 9 (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) . وأما أهل الإيمان الخالص فهم الذين أتوا بهذه الكلمة، واجتمعت لهم قيودها التي قيدت بها علما ويقينا، وصدقا وإخلاصا ومحبة وقبولا وانقيادا، وعادوا فيه ووالوا فيه وأحبوا فيه وأبغضوا فيه. وقد ذكرهم الله تعالى في مواضع من سورة براءة وغيرها وخصهم بالثناء عليهم والعفو عنهم، وأعد لهم جنته وأنجاهم من النار; كما قال تعالى: 100: 9 (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) ، فهؤلاء ومن اتبعهم هم أهل "لا إله إلا الله", وغير هذه من الآيات في الثناء عليهم وما أعد لهم في الدار الآخرة. فمن تدبر القرآن وعرف تفاوت الخلق في محبة ربهم وتوحيده والعمل بطاعته والهرب من معصيته وإيثار ما يحبه تعالى رغبة وعملا، وترك ما يكرهه خشية ورجاء, واعتبر الناس بأحوالهم وأقوالهم وأعمالهم ونياتهم وما هم فيه من التفاوت البعيد; تبين له خطأ المغرورين؛ كما في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني".
__________
1 صحيح: أحمد (2/169,170,225) . وصححه الحاكم (1/48,49) ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي (4/220) : "ورجال أحمد ثقات" اهـ. وقال الألباني في الصحيحة (1/210) : "وسنده صحيح" اهـ.
2 سورة الأحقاف آية: 13.

الصفحة 51