كتاب الأحكام المترتبة على الحيض والنفاس والاستحاضة

به الشريعة، فإنَّ مذهب عامة العلماء أنَّ من أمكنه الحج، ولم يمكنه الرجوع إلى أهله لم يجب عليه الحج، أمَّا مع الضرر الذي يُخَاف منه على النفس، أو مع العجز عن الكسب فلا يوجب أحد عليه المقام، فهذه لا يجب عليها حجٌّ يحتاج معه إلى سكنى مكة.
وكثيرٌ من النساء إذا لم ترجع مع من حجَّت معه لم يمكنها بعد ذلك الرجوع، ولو قُدِّر أنه يمكنها بعد ذلك الرجوع، فلا يجب عليها أن يبقى وطؤها مُحرَّمًا مع رجوعها إلى أهلها، ولا تزال كذلك إلى أن تعود، فهذا من أعظم الحرج الذي لا يوجب الله مثله؛ إذ هو أعظم من إيجاب حجَّتين، والله تعالى لم يُوجِب إلاَّ حجَّةً واحدة (¬1).
وإذا قيل في هذه المرأة:
بل تتحلَّل كما يتحلَّل المحصر، فهذا لا يفيد سقوط الفرض عنها، فتحتاج مع ذلك إلى حجَّة ثانية، ثم هي في الثانية تخاف ما خافته في الأولى.
وإذا قيل: إنَّ الحج يسقط عن مثل هذه، كما يسقط عمَّن لا تحجُّ إلاَّ مع من يفجر بها، لكون الطواف مع الحيض يحرم كالفجور.
قيل: هذا مخالف لأصول الشرع؛ لأنَّ الشرع مبناه على قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
وعلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (¬2) ومعلومٌ أنَّ المرأة إذ لم يمكنها فعل شيءٍ من فرائض الصلاة أو الصيام أو غيرهما، إلاَّ مع الفجور، لم يكن لها أن تفعل ذلك، فإنَّ الله تعالى لم يأمر عباده بأمر لا يمكن إلاَّ مع الفجور، فإنَّ الزنا لا يُباح بالضرورة، كما يُباح أكل الميتة عند الضرورة.
¬_________
(¬1) مجموع الفتاوى (26/ 185).
(¬2) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله (8/ 142) ومسلم في الحج، باب فرض الحج مرة في العمر (2/ 975).

الصفحة 128