كتاب شرح مقدمة التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي

وَإِلَى بَرَاءَةٌ، وَهِيَ مِنَ «الْمِئِينَ»، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَوَضَعْتُمُوهَا فِي «السَّبْعِ الطِّوَالِ»، فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟
قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم مِمَّا يَاتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ مِنَ السُّوَرِ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ لَهُ، فَيَقُولُ: «ضَعُوا هَذِهِ فِى السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا». وَإِذَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ الآيَاتُ قَالَ: «ضَعُوا هَذِهِ الآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا». وَإِذَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ الآيَةُ قَالَ: «ضَعُوا هَذِه الآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا» (¬1).
وَكَانَتِ الأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَرَاءَةٌ مِنْ أَوَاخِرِ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ. قَالَ: فَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهاً بِقِصَّتِهَا، فَظَنَنَّا أَنَّهَا مِنْهَا، وَقُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ»، قد يعتمد عليه من يرى أن ترتيب السور بالاجتهاد، إلا أن هذا الأثر يمكن النظر فيه من خلال النقاط الآتية:
¬_________
= السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ» رواه البخاري وغيره.
الثاني: أنها السبع الطوال، وقد ورد هذا عن جمع من الصحابة كابن مسعود وابن عمر وابن عباس، وغيرهم من السلف، وقد ورد هذا في تفسيرهم لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87] من سورة الحجر، وسُميت مثاني؛ لأنها تثنَّى فيها المواعظ والقصص والأحكام، كما ذكر الطبري في توجيه هذا القول عند تفسير آية الحجر.
الثالث: القرآن كله، ومعنى كونه مثاني؛ أي: يشبه بعضه بعضاً، وهو قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23]، وسمي القرآن كله مثاني؛ لأنه تُثنى فيه الأنباء والأخبار والقضاء والأحكام والحجج، كما وجَّه ذلك الإمام الطبري في تفسير آية الزمر.
(¬1) المسند برقم (399) 1/ 460.

الصفحة 39