كتاب أصول الدعوة وطرقها 3 - جامعة المدينة

ولو أن هذه الرواية كانت صحيحة لأولناها تأويلًا مقبولًا، أما هي على هذه الحالة فلا نكلف أنفسنا عناء البحث عن مخرج لها، والتعليل الصحيح لكثرة غشيانه -صلى الله عليه وسلم- في مدة الفترة رؤوس الجبال، أن الإنسان إذا حصل له خير أو نعمة في مكان، فإنه يحب هذا المكان ويلتمس منه ما افتقده، فلما انقطع الوحي صار صلى الله عليه وسلم يكثر من ارتياد قمم الجبال -ولا سيما حراء-؛ رجاء أنه إن لم يجد جبريل في حراء فيجده في غيره.
وليس أدل على ضعف رواية رغبته في الانتحار، من أن جبريل كان يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم- كلما أوفى بذروة جبل: يا محمد، إنك رسول الله حقًّا، وأنه كرر ذلك مرارًا، ولو صح هذا لكانت مرة واحدة تكفي في تثبيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وصرفه عما حدثته به نفسه، كما زعموا.
عودة الوحي:
قال ابن حجر: "وكان ذلك -أي: انقطاع الوحي أيامًا- ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع، وليحصل له التشوف إلى العَود، فلما حصل له ذلك، وأخذ يرتقب مجيء الوحي أكرمه الله بالوحي مرة ثانية".
قال صلى الله عليه وسلم: ((جاورت بحراء شهرًا، فلما قضيت جِواري هبطت، فلما استبطنت الوادي فنوديت فنظرت عن يميني فلم أرَ شيئًا، ونظرت عن شمالي فلم أرَ شيئًا، ونظرت أمامي فلم أرَ شيئا، ونظرت خلفي فلم أرَ شيئًا، فرفعت رأسي فرأيت شيئًا، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجُئِثْت منه رعبًا حتى هويت إلى الأرض، فأتيت خديجة فقلت: زملوني زملوني -أي: دثروني- وصبوا علي ماء باردًا. قال: فدثَّروني وصبوا عليَّ ماء باردًا فنزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر*قُمْ فَأَنذِر*وَرَبَّكَ فَكَبِّر*وَثِيَابَكَ فَطَهِّر*وَالرُّجْزَ فَاهْجُر} (المدَّثر:1 - 5) وذلك قبل أن تفرض الصلاة)).

الصفحة 104