كتاب أصول الدعوة وطرقها 4 - جامعة المدينة

لقد كان الوحي يتنزل، يأخذ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والمؤمنين معه بمنهج اليسر، وَيُقَوِّمُ مِعْوَجَّ المسلمين في هذا الجانب ويسددهم حين يقوم الانحراف، وَقَدْ فَقِهَ الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- هذا المنهج الذي أراده الله بهذه الأمة، فَقَامَ عَلَى تَحْقِيقِهِ فِي نَفْسِهِ وَفِي الْآخَرِينَ، فَكَانَتْ حياة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- يسرًا كلها؛ كيف لا؛ وقد وعده الله بأن يكون كذلك؟! {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} (الأعلى: من الآية: 8).
إن الناظر في سيرة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- يعجب لذلك اليسر الْمُدْهِشِ الَّذِي كَانَ يَأْخُذُ بِهِ نَفْسَهُ فِي عِبَادَتِهِ وَدَعْوَتِهِ وتعامله مع أصحابه وأعدائه: كان -صلى الله عليه وآله وسلم- يصوم من الشهر حتى يقول القائل: لا يُفْطِرُ. ويفطر من الشهر حتى يقول القائل: لا يصوم. وإذا وجد طعامًا أكل، وإذا وجد شرابًا -عسلًا أو غيره- شرب وإلا صبر.
يُدْعَى فيستجيب، ويُسْأَلُ فَيُعْطِي، في كَلَامَاتٍ قَلِيلَةٍ يُعَالِجُ أَمْرَاضًا نفسية اسْتَحْكَمَتْ فِي النفوس، وفي بساطةٍ وسهولة يقيم الحجة على الخصوم، وبالطريقة نفسها كان يقود المجتمع المسلم، ويقود الجيوش.
وكان -صلى الله عليه وآله وسلم- يَرْقُبُ صحبه الكرام؛ فإذا رأى منهم ميلًا إلى التعسير ردهم إلى التيسير، وأرشدهم إلى الأخذ بالرفق، وقد وجههم توجيهًا عامًّا إلى هذا المنهج المبارك؛ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ البخاري ومسلم: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا))، ((وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ؛ فَقَالَ: مَا هَذَا الْحَبْلُ؟ قَالُوا: حَبْلٌ لِزَيْنَبَ؛ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ بِهِ، فقال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: لا، حلُّوه ليصلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ؛ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ)) وهكذا يرد الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم زوجته إلى اليسر إذا أتعبها طول القيام في صلاة الليل فلا حرج عليها أن تصلي قاعدة.

الصفحة 71