كتاب منتقى الألفاظ بتقريب علوم الحديث للحفاظ

ولهذا فالنظر منصرف إلى كتب المراسيل، في البحث عن أحوال مروياتهم، لا إلى كتب التدليس.
هذا والعنعنة عند المتقدمين في الأصل من تصرف الرواة الذين هم دون الراوي الذي جاءت أداة العنعنة (عن) بعده، وأما المتأخرون فلا تتجاوز كونها من صنيع الراوي نفسه.
قال الحاكم: قرأت بخط محمد بن يحيى، سألت أبا الوليد: أكان شعبة يفرق بين أخبرني وعن؟ فقال: أدركت العلماء وهم لا يفرقون بينهما. اهـ. "شرح العلل" (١/ ٣٦٤).
بل منهم من كان يتساهل في التحديث، فلا بد للباحث من التمعن وعدم الأخذ بالظاهر.
فقد ذكر الإسماعيلي عن الشاميين والمصريين أنهم يتساهلون في التحديث. "فتح الباري" لابن رجب (٣/ ٥٤).
وقال ابن رجب رحمه الله: وكان أحمد يستنكر دخول التحديث في كثير من الأسانيد، ويقول: هو خطأ - يعني: ذكر السماع - ثم ذكر لذلك أمثلة، وقال: وحينئذ فينبغي التفطن لهذه الأمور، ولا يغتر بمجرد ذكر السماع والتحديث في الأسانيد "شرح العلل" (١/ ٣٦٩).
قلت: فانظر بعد هذا فقد ذكرت لك سبعة ممن وصفوا بكثرة التدليس عند المتأخرين كالعلائي وابن حجر وسبط ابن العجمي، واعتمدهم من بعدهم من غير تفتيش ولا تحرٍّ - وهؤلاء السبعة ممن أكثروا من المرويات، فهل مثل هؤلاء يرد حديثهم لمجرد وصف خاطئ وُصفوا به، بناء على فهم سقيم، وبناء على عنعنة وقعت ممن دونهم لا منهم.
وبالجملة: فالأئمة المتقدمون إذا قالوا: (فلان يدلس) فيريدون أحد أمرين:
إما أنه بمعنى الإرسال وهو الغالب، أو أنه بمعنى ندرة التدليس، وفق اصطلاح المتأخرين.
وكذلك في مسألة: تعارض الوصل والإرسال.
فالمتأخرون عادة إذا كان ظاهر الإسنادين المتصل والمرسل صحيحًا يرجحون المتصل، ولا يعتبرون الإسناد المرسل علة يرد بها الإسناد المتصل.
أما المتقدمون، فلا يحكمون على هذا بشيء مقدمًا، بل يدرسون الإسنادين، وينظرون القرائن المحتفة بهما، فيرجحون ما دلت القرينة على ترجيحه، وقد يَصِحُّحون كلا الإسنادين، لقرائن.

الصفحة 459