كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 1)

هذه المدنيات واقتباس النافع منها، وكان من فضل القرآن على العالم أنه أبقى بهذا الإرشاد على علوم كادت تندرس وعلى آثار مدنيات كادت تنطمس.
إن الفائدة الكبرى التي يعلّقها القرآن على السير في الأرض والوقوف على آثار الأمم البائدة هي الاعتبار بحال الظالمين وعقبى الظالمين ليعلم المعتبر أن الظلم هو سوس المدنيات فيقيم العدل، وإذا جاء العدل جاء العمران، وإذا جاء العمران قامت المدنية، وكان العدل سياجها والعلم سراجها، وهذه هي مدنية الإسلام.
إن إرشاد الإسلام للمسلمين بأخذ الصالح النافع أينما وجد هو الذي دفعهم بعد تمكّن سلطانهم وتمهد ملكهم إلى البحث عن الآثار العقلية للأمم التي سبقتهم، فاطلعوا على ما أنتجت قرائح يونان وفارس والهند في العلم والآداب فنقلوها إلى لغة القرآن ووجدوا فيها خير معين على ذلك.

أيها الإخوان: هنا الجانب العامر من لغتكم، وهنا النقطة التي سقنا هذا الحديث كله من أجلها، وهنا الموضوع وهو فضل اللغة العربية على العلم والمدنية.

أيها الإخوان:
لو لم تكن اللغة العربية لغة مدنية وعمران، ولو لم تكن لغة متّسعة الآفاق غنية بالمفردات والتراكيب، لما استطاع أسلافكم أن ينقلوا إليها علوم اليونان وآداب فارس والهند، وَلَأَلْزَمَتْهُم الحاجة إلى تلك العلوم تعليم تلك اللغات، ولو فعلوا لأصبحوا عربًا بعقول فارسية وأدمغة يونانية، ولو وقع ذلك لتغير مجرى التاريخ الإسلامي برمّته.
لو لم تكن اللغة العربية لغة عالمية لما وسعت علوم العالم، وما العالم إذ ذاك إلا هذه الأمم التي نقل عنها المسلمون.
قامت اللغة العربية في أقلّ من نصف قرن بترجمة علوم هذه الأمم ونُظمها الاجتماعية وآدابها فوعت الفلسفة بجميع فروعها، والرياضيات بجميع أصنافها، والطب والهندسة والآداب والاجتماع، وهذه هي العلوم التي تقوم عليها الحضارة العقلية في الأمم الغابرة والحاضرة، وهذا هو التراث العقلي المشاع الذي لا يزال يأخذه الأخير عن الأول، وهذا هو الجزء الضروري في الحياة الذي إما أن تنقله إليك فيكون قوّة فيك، وإمّا أنْ تنتقل إليه في لغة غيرك فتكون قوة لغيرك. وقد تفطن أسلافنا لهذه الدقيقة فنقلوا العلم ولم ينتقلوا إليه. وقد قامت لغتهم بحفظ هذا الجزء الضروري من الضياع بانتشاله من أيدي الغوائل وبنقله إلى الأواخر عن الأوائل، وبذلك طوّقت العالم منة لا يقوم بها الشكر، ولولا العربية لضاع على العالم خير كثير.

الصفحة 376