كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 1)

أيها الإخوان:
إن كثيرًا من العلوم التي بنيت عليها الحضارة الغربية لم تصلها إلا على طريق اللغة العربية بإجماع الباحثين منا ومنهم، وان المنصفين منهم ليعترفون للغة العربية بهذا الفضل على العلم والمدنية ويوفونها حقّها من التمجيد والاحترام، ويعترفون لعلماء الإسلام بأنهم أساتذتهم في هذه العلوم، عنهم أخذوها وعن لغتهم ترجموها وانهم يحمدون للدهر أن هيّأ لهم مجاورة المسلمين بالأندلس وصقلية وشمال أفرلقيا وثغور الشام حتى أخذوا عنهم ما أخذوا واقتبسوا عنهم ما اقتبسوا، ولا يزال هؤلاء المنصفون يذكرون فضل معاهد الأندلس العربية ومعاهد شمال افريقيا ومعاهد الشام على الحضارة القائمة، ولا يزالون ينتهجون بعض المناهج الدراسية الأندلسية في معاهدهم إلى الآن، ولا يزالون يردون كل شيء إلى أصله ويعترفون لكل فاضل بفضله.
...

وها هنا، أيها الإخوان، مسألة يجب الكشف عن حقيقتها، فقد كثرت فيها المغالطات وجنى عليها تعصّب المتعصبين من ذوي الدخائل السيّئة من الغربيين ومقلّدتهم حتى أصبح باطلها حقًا وكذبها صدقًا ووهمها حقيقة، وحتى أصبح هذا الوهم من المسلّمات التي لا تقبل الجدل عند أبنائنا الذين تلقّوا العلم على أيدي أولئك المتعصبين، وهي ان العرب ليس لهم فيما ترجموا إلا النقل المجرد، وانهم لم يزيدوا شيئًا في التراث الفكري الذي نقلوه، وأن وظيفتهم في هذه الوساطة وظيفة الناقل الأمين الذي ينقل الشيء كما هو ملفوفًا من يد إلى يد.
أغلوطة ملأت كتب الكثير منهم وترددت على ألسنتهم يمهّدون بها إلى وصم العربي بأنه بليد الفكر جامد القريحة سطحي التفكير مسدود الشهية العلمية، ويتوسّلون بذلك إلى تزهيد العربي في مزايا إسلامه واحتقاره لها ولهم.
والحقيقة التي يؤيّدها الواقع ويشهد بها المنصفون منهم أن العرب حينما نقلوا علوم الأوائل كما كانوا يسمّونها نقلوا بدافع وجداني إلى العلم ورغبة ملحّة فيه، وانهم نقلوا ليستقلّوا وليستغلّوا ولينتفعوا بثمرة ما نقلوا ولا يتم لهم هذا الاستقلال في العلم إلا بالتمحيص والتصحيح.
ومن الثابت عندنا أن عهد الترجمة كان عهد اضطراب في هذه العلوم المترجمة ردّت فيه التبعة على المترجمين، ثم انجلت الرغوة وعمل الفكر العربي الوقّاد عمله فصحّح أغلاط الفلاسفة وصحّح نظريات الرياضة، وجاء دور الاجتهاد في هذه العلوم فاستقلّ الفكر العربي

الصفحة 377