كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 1)

بالفلسفة وكيّفها على ذوقه الخاص. واستنبط في هذه العلوم طرائق وأنواعًا لم تكن معروفة من قبل للأوائل، وصحّح العلل وكشف عن الأوهام وانتقد انتقاد المستقلّ. وما كان الفارابي وابن سينا وأبو سليمان المنطقي في المشارقة ولا ابن باجة وابن طفيل وابن برجان وابن رشد وابن الهذيل، في الأندلسيين، بالمقلدين في علوم الأوائل.

أيها الإخوان: إن العربية لم تخدم مدنية خاصة بأمّة، وإنما خدمت المدنية الإنسانية العامة، مدنية الخير العام والنفع العام، ولم تخدم علمًا خاصًا بأمّة وإنما خدمت العلم المشاع بين البشر بجميع فروعه النافعة. ومن يستقرئ خاصة هذه اللغة لعلم الطب وحده يتبين مقدار ما أفاءت هذه اللغة على البشرية من خير ونفع.
وقد كانت هذه اللغة في القرون الوسطى يوم كان العالم كله يتخبّط في ظلمات الجهل هي اللغة الوحيدة التي احتضنت العلم وآوته ونصرته.

أيها الإخوان: هذا فضل لغتكم على المدنية الإنسانية وفضلها على الأمم غير العربية، وأما فضلها على الأمم العربية فإنه يزيد قدرًا وقيمة على فضلها على الأمم الاأخرى، وإذا قلنا الأمم العربية، فإننا نعني الأمم الإسلامية كلها، لأنها أصبحت عربية بحكم الإسلام ولغة الإسلام.
فاللغة العربية منذ دخلت في ركاب الإسلام على الأمم التي أظلّها ظلّه كانت سببًا في تقارب تفكيرهم وتشابه عقلياتهم وتمازج أذواقهم وتوحيد مشاربهم. وإن هذا لمن المناهج السديدة في توحيد الأمم المختلفة الأجناس. ولولا العربية لاختلفت الأمم الإسلامية في فهم حقائق الدين باختلاف العقليات الجنسية، وقد وقع بعض هذا ولكنه من القلة بحيث لا يظهر أثره في الحركة العامة للأمة.
إن الأمم التي دخلت في الإسلام متفاوتة الدرجات في الانفعالات النفسية وأنماط التفكير، متفاوتة في الإدراك والذكاء، متفاوتة في القابلية والاستعداد، متفاوتة في التصوير والتخيّل، ولكن اللغة العربية فتحت عليها آفاقًا جديدة في كل ذلك ما كانت تعرفها لولا العربية، ودفعتها بما فيها من قوة وبما لها من سلطان إلى التفكير والتعقّل على منهج متقارب، وحفزت الأفكار الخامدة إلى التحرّك وزادت الأفكار المتحرّكة قوة على قوة.

أيها الإخوان: إن اللغة العربية هي التي قاربت بين الفكر الفارسي المنفعل القلق وبين الفكر البربري الرصين الهادئ ثم هيأت لكل فكر قابليته.
واللغة العربية هي التي سهّلت لهذه الأمم المختلفة أسباب العلم والمدنية ومهّدت لها الطرائق المؤدية إليهما حتى أخذت كل أمة حظها منهما.

الصفحة 378