كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 1)

المراد ببلغن هنا انتهين إلى آخر ما يعتددن به، لأنهن، إن وصلن إلى ذلك، ملكن أمر أنفسهن، ولم يبق للرجال حق في إمساكهن ومراجعتهن.
وجميع الكلمات التي تلتقي مع كلمة بلغ في حروفها تلتقي معها في معناها، كالبلاغة في الكلام، وهي أن يبلغ المتكلم ما يريد من السامع بإصابة موضع الإقناع من العقل والوجدان من النفس، والمبالغة في القول أو العمل هي أن يبلغ إلى نهاية الممكن من نوعهما، والبُلْغة من العيش هي أقل ما يمسك الرمق، والأقل نهاية في التدلّي والتبلغ تَفَعُّلٌ وممارسةٌ من البلغة، ومع هذا الشرح لتصاريف هذه الكلمة التي تلتقي في أصل واحد، فإن معنى كون القرآن بلاغًا لا يفهم بمجرد التعريفات الاصطلاحية، ولا بالوقوف عند حدود الذلالات اللفظية، فبلاغ معناه وصول، وهذا لا يقنع، وبلاغ بمعنى شيء بالغ أو شيء مبلغ لا يقنع، وإنما يفهم هذا ونحوه بالذوق القرآني، فإذا قلنا في معنى الجملة: هذا القرآن بما فيه من الحكم والأحكام، وبما فيه من الترغيب والترهيب، وبما فيه من رغائب الروح والجسد، وبما فيه من علوم وحقائق، وبما فيه من بيان حقوق الله على عباده وحقوق العباد بعضهم على بعض، وبيان ما ضمنه لعباده من حقوق إلى غير ذلك مما اشتمل عليه، نهاية وكفاية للناس في الاتعاظ والاعتبار، بحيث لا يحتاجون إلى غيره في إصلاح نفوسهم واعدادها للحياة السعيدة في الدارين، إذا قلنا ذلك لم نبعد في تفسير هذه الكلمة وإصابة الصواب في موقعها من هذه الجملة.
{وَلِيُنْذَرُوا بِهِ}: الإنذار اعلام مع تخويف، قال تعالى (107): {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (108)}، {فَإِنْ أَعْرَضُوا (109) فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ (110) صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}، ويقابله التبشير، وهو الاخبار بما يُسر ويبهج، مثل قوله تعالى (111): {يُبَشِّرُهُمْ (112) رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ.} وقد تستعمل البشارة في الضد كقوله تعالى: { ... فَبَشِّرْهُ (113) بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. والْإنذار والتبشير هما أهم وظائف الرّسل، قال تعالى (114): {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ... }، وقد كانت أولى وظائف نبينا
__________
107) سورة الليل، الآية 14.
108) تتلهب، تتأجج، تستعر ...
109) سورة فصلت، الآية 13.
110) خوفتكم عذابًا شديدًا مهلكًا.
111) سورة التوبة، الآية 21.
112) البشرى: الخبر المفرح، والبشارة المطلقة لا تكون إلّا بالخير.
113) سورة لقمان، الآية 7.
114) سورة الأنعام، الآية 48.

الصفحة 399