كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 1)

وأقسم لَيُغْوِينَّه: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (142)} وكانت مداخلُه إلى قلبه كثيرة، كانت أكبر وسيلة له إلى ذلك أن ينسيه ربَّه، وكان التذكر، وهو تكلف الذكر ومجاهدة النفس عليه، أمضى سلاح، يحارب به المؤمن الشيطان.
فالتذكر نتيجة عراك بين النفس المُنيبَة (143) والشيطان، ولذلك كان أمرًا شاقًا لا يقدر عليه إلا الموفقون، قال تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (144)}، وقال: ... (143) {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ}. وقال هنا: في آية درسنا ... {وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}، والألباب جمع اللب وهو العقل، قيل مطلقًا، وقيل هو العقل الخالص من الشوائب أخذا من أصل معناه، فَلُبُّ الشيء ولبابه هو خالصه، وهذا هو الذي يجب أن تفسَّر به هذه الكلمة في القرآن، لأننا نجده لا يذكرها إلّا في المسائل التي لا تدركها إلا العقولُ الزكية (146) الراجحة كقوله تعالى: ... (147) {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ (148) فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}.
قال تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}. هذه الآية الكريمة من أبلغ الآيات، وأجمعها لوصف القرآن وبيان الحكم التي انطوى عليها والحقائق التي أنزل لِبيانها، فهي تعريف جامع لأشتات الفوائد المفصلة في آياته وسوره، وأنا اختار في مرجع هذه الإشارة من هذه الآية أنها راجعة إلى القرآن كله، ما نَزَلَ منه قبل نزول هذه الآية المكية وما لم ينزل باعتباره كلام الله الذي قدر إنزاله لهداية خلقه، وهذا أحد احتمالات ثلاثة يقتضيه اللفظ، وهو أعمها، وأقواها، وأقربها إلى الذوق القرآني وإلى اسلوب الآيات الواردة في وصف القرآن كقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ (149) ... }، {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ (150) ... }، {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ ... (151)}، ولتناسب طرفي هذه السورة، فقد بدئت بذكر الكتاب الموصوف بقوله: {أَنْزَلْنَاهُ} لتحقق النزول، والكتاب إنما يطلق على القرآن كله.
__________
142) سورة ص، الآية 82.
143) التائبة، الراجعة إلى الله.
144) سورة الأعلى، الآية 10.
145) سورة غافر، الآية 13.
146) الطاهرة، الصالحة، النيرة.
147) سورة البقرة، الآية 269.
148) العلم النافع الذي يؤدي إلى العمل الصالح.
149) سورة الانعام، الآية 92 والآية 155.
150) سورة الجاثية، الآية 29.
151) سورة الأنبياء الآية 50.

الصفحة 402