كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 3)

ولا أحب أن أنتهي من هذا التقديم دون إشراك القارئ معي، في تذوق حلاوة بعض النماذج الفريدة التي تعكس روح تاريخ العصر، بدءًا بالمحلية، وانتهاءً بالعالمية.
ولعل من ألغاز "عيون البصائر"، "سجع الكهان" و"كلمات مظلومة" وغيرها، وأكتفي بتقديم نماذج من هذه الألغاز ليدرك القارئ أية حلاوة متضمنة في هذه الألغاز.
يقول الإبراهيمي عن عنوانه كلمات مظلومة: كالعدل، والاستعمار، والإصلاحات، والديمقراطية ... وغيرها "إن ظلم الكلمات بتغيير دلالتها، كظلم الأحياء بتشويه خلقتهم، كلاهما منكر، وكلاهما قبيح، وإن هذا النوع من الظلم، يزيد على القبح بأنه تزوير على الحقيقة، وتغليط للتاريخ" [ص:506].
وعن "الاستعمار" يقول: بأن أصل هذه الكلمة في لغتنا طيب ففي القرآن {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} "ولكن إخراجها من المعنى العربي الطيب إلى المعنى الغربي الخبيث ظلم لها "والذي صير هذه الكلمة بغيضة إلى النفوس ثقيلة على الأسماع ... هو معناها الخارجي- كما يقول المنطق- وهو معنى مرادف للإثم، والبغي، والخراب، والظلم، والتعدي، والفساد، والنهب، والسرقة، والشر، والقسوة، والانتهاك، والقتل والحيوانية ... إلى عشرات من مئات من هذه الرذائل تفسرها آثاره، وتتجلى عنها وقائعه" [ص:506].
أما عن "الديمقراطية": "هذا الرأي اليوناني النظري الجميل" فقد أصابها الظلم هي الأخرى "لم تظلم هذه الكلمة ما ظلمت في هذه العهود الأخيرة، فقد أصبحت أداة خداع في الحرب وفي السلم، جاءت الحرب فجندها الاستعمار في كتائبه وجاء السلم فكانت سرابًا بقيعة، ولقد كثر أدعياؤها ومدعوها والداعون إليها، والمدعي لها مغرور، والداعي إليها مأجور، والدعي فيها لابس ثوبي زور ... لك الله أيتها الديمقراطية ... " [ص:508].
وعن الإرهاب يقول الشيخ: "ودع عنك حديث الإرهاب فما هو إلا سراب" [ص:436].
هذه إذن هي الكلمات المظلومة في قاموس "عيون البصائر" ولقد جاءت الممارسة العربية والغربية المعاصرة، لتدلل على صحة ما ذهب إليه الإمام البشير، وصدقت تنبؤاته فكان كأنما يرى بنور الله ...
فإذا انتقلنا إلى "سجع الكهان" فإننا نجد لونًا آخر من الخطاب السياسي الأدبي، لم تعهده مجامعنا، إنه خطاب يجمع بين الرشاقة اللفظية، والخفة المعنوية، بين الذكاء السياسي، والتوظيف التاريخي، في صور تمثيلية ما عرف مثلها في خطابنا المعاصر، فهذه

الصفحة 18