كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 3)

الصليبية نَجَم، لا جيش من الفرنسيين هَجَم" (4)، وأن هذه الصليبية لم تخف حِدَّتها، ولم يتغيّر لونها، ولم تضعف فَوْرَتُها بتعاقب السنين وتطور الأفكار؛ بل بقيت هي هي "تَجَمْهَرت فرنسا أو تَدَكْتَرت، أو اختلفت عليها الألوان بَياضًا وحمرة" (5).
كانت مواقعت علماء الجزائر من الوجود الفرنسي ببلادهم (1830 - 1962)، ومن خطة الفرنسيين لتنصيرها وفَرْنَستها مختلفة، ويمكن تقسيمهم إلى أربعة أقسام.
1 - فريق منهم لم يستطيعوا صبرًا على محنة بلادهم، فغادروها إلى البلدان العربية والإسلامية، مثل المغرب، وتونس، ومصر، والحجاز، والشام، وتركيا. وهؤلاء إن لم ينفعوا بلادهم؛ فقد خدموا إخوانهم المسلمين في البلدان التي استقرّوابها، وأسهموا بنصيب طيب في نهضة تلك البلدان.
2 - وفريق انعزلوا عن الناس، وابتعدوا عن المجتمع، وراحوا يتفرجون على محنة وطنهم، ويتَحَسَّرون على مأساة شعبهم، ويتأوَّلون في سلوكهم السلبي ذاك آية كريمة، هي قوله تعالى: { .. لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ .. }. فمَثَل هؤلاء العلماء كَمَثَل العضو المشلول من الجسد؛ يراه الناس ولا يحسُّون أثره.
3 - وفريق غلبت عليهم شِقْوَتهم، وضلوا عن علم، وهلكوا عن بَيِّنَة، فانْسَلَخوا من آيات الله التي آتاهم، واشتروا بها ثمنًا قليلًا، وخانوا الله ورسوله والمؤمنين، وتَحَيَّزوا إلى الفرنسيين الذين اتّخذوهم سُخْرِيًّا ضد شعبهم، ووطنهم، ودينهم.
4 - وفريق فقهوا دين الله عزّ وجل، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، ولم يخونوا أماناتهم، فوقفوا إلى جانب شعبهم في مأساته، وحفظوا له خصائصه من الذَّوَبان، وثَبَّتُوا له مقوّماته الحضارية التي استردّ بها سيادته، واسترجع بفضلها استقلاله.
ومن هذا الفريق الإمام محمد البشير الإبراهيمي- رضي الله عنه وأرضاه- الذي ما إن استكمل تحصيله العلمي حتى عاد إلى وطنه، ليضع علمه وجهوده في خدمة شعبه، وليقود جهاده الحضاري وصراعه الفكري ضد الفرنسيين.
كان في مُكْنَةِ الإمام الإبراهيمي أن يعيش دنياه منَعَّمًا، وأن ينال منها نصيبًا موفورًا؛ لما آتاه الله من بسطة في العلم، واستبحار في المعرفة؛ كان في مستطاعه أن يبقى مكرَّمًا في مكة بالقرب من البيت المعمور؛ أو أن يَتَدَيَّر طيبَة الطيبة بجوار خير الخلق كلهم؛ أو أن يستقرّ معزَّزًا بدمشق؛ أو أن يستوطن القاهرة ويحوز في أزهرها مكانًا عليًا، أو أن يقيم
__________
4) نفس المرجع.
5) نفس المرجع.

الصفحة 24