كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 3)

الأمة"، بعد اكتشاف مصالح الأمن الفرنسية- في مارس 1950 - المنظمة الخاصة ( l'organisation spéciale)، وهي منظمة سرية، أُنشئت سنة 1947، لتدريب الشبّان الجزائريين على الأعمال العسكرية، استعدادًا لإعلان الجها د من أجل تحرير البلاد.
وقد أنهى الإمام هذه المقالات بتأكيد ما دعا إليه سنة 1936 من "أن الحقوق التي أخذت اغتصابًا لا تسترجع إلا غلابًا " (18)، فقال مخاطبًا الشعب الجزائري: "إن القوم - الفرنسيين- لا يدينون إلا بالقوة، فاطلبها بأسبابها، وأْتِها من أبوابها، وأقوى أسبابها العلم، وأوسع أبوابها العمل، فخُذْهُما بقوة تَعِشْ حميدًا وتَمُتْ شهيدًا " (19).
إن الإمام الإبراهيمي ليس رجُلَ قطر مهما اتّسعت أرجاؤه، وليس رجُلَ إقليم مهما امتدّت أطرافه، ولكنه رجُل أمّة برَّحت به مِحَنُها، وصهرت جوانحه آلامها، وأمَضَّه هوانُها على الناس، فحمل أثقالها مع أثقال وطنه، فأجال فكره في قضاياها، وأسال قلمه في مشكلاتها، وعمل على أن يعيدها - كما شاء ربّها - {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}. وكان لها في كل ما كتب وقال وعمل من الناصحين.
وكانت قضية القضايا عنده هي فلسطين، التي صَوَّرها فأحسن صُوَرها، وجادل عنها فأتقن الجدال، إذ دَبَّج عنها مقالات لم يُبْلِها تعاقبُ الأيام، وعَنَت لها أئمة الكلام، وأعْجَزَت حَمَلَة الأقلام، وخضعَتْ لها كَمَلَةُ الأحلام، فقد جاء فيها بما لم يأت الأوائل من بيان رائع، وبرهان ساطع، ودليل قاطع، حتى قال عنها الأستاذ فايز الصائغ- أستاذ الفلسفة بالجامعة الأمريكية ببيروت، إنه "لم يُكتَب مِثلُها من يوم جَرَت الأقلام في قضية فلسطين" (20).
لقد كانت تلك المقالات آية في صدق لهجتها، وعُمْق معاناة كاتبها، فلم تترك خائنًا إلا كَشَفَته، ولا جَبانًا إلّا عيَّرَتْهُ، ولا بَخيلًا إلا وبَّخَته، ولا مقصِّرًا إلا عنَّفَتْه، ولا متقاعسًا إلا وَخَزَتْه، ولا خاذلًا إلا فضَحَتْه.
لقد دفع الإمامَ إلى الاهتمام بالقضية الفلسطينية أمران أساسيان هما:
1 - إنها قضية دينية، ففلسطين هي أرض النبوّات التي لا إيمان لمن لا يؤمن بها، وهي موطن كثير من الرسُل الذين أُمِر المسلمون أن يؤمنوابهم جميعًا، وأن لايفرِّقوا بين
أحد منهم، وهي تضم ثالِث أقداس المسلمين، وهي قبلتُهم الأولى، والمستهدَفُ فيها - بَدْءًا وختامًا - هو الإسلام.
__________
18) انظر مقال "الإصلاح الديني لا يتم إلا بالإصلاح الاجتماعي" في الجزء الأول من هذه الآثار.
19) انظر مقال "ويحهم أهي حملة حربية"، [ص:379].
20) انظر مقال "كيف تشكلت الهيئة العليا لإعانة فلسطين- 1" في الجزء الثاني من هذه الآثار.

الصفحة 30