كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 3)

وأحداثه سنين، فكمُلت الخبرة واستحكمت التجربة، وكان تعطيلها لأوائل هذه الحرب مثلًا شرودًا في الحفاظ والإباء، ومنقبةً بكرًا في الكبرياء والعزة، ذلك أنه لما تجهَّمت الأيام، وتنكرت الأحداثُ، واستبهمت المسالك، ولوّح لها أن تجريَ على ما يراد منها، لا على ما تريد، قالت ما قالته الزباءُ قبلها "بيدي لا بيد عمرو"، وخار الله للقائمين عليها في ذلك التعطيل، كما خار لهم من قبل في تقرير السكوت (1)، ولعمري ان التعطيل لخيرٌ من نشر الأباطيل.
إذ "تقرير السكوت" من غرر أعمال جمعية العلماء، ومن آرائها التي تشظَّتْ عنها صدَفةُ الحكمة، ومن شواردها التي لا تضاد إلا ببعد النظر، فقد وقاها ذلك التقرير مزالقَ لا يتلاقى فيها رضا الله برضا المخلوق، ولقد كانت الجمعية تعلمُ أن القوةَ التي تستطيع الإسكاتَ لا تستطيع الإنطاق، ولأنْ يسكتَ العاقل مختارًا، في وقت يحسن السكوت فيه، خير من أن ينطق مختارًا في وقت لا يحسن الكلام فيه، وكل نَطْقة تمليها الظروف لا الضمائر تثمر سكتةً عن الحق، ما من ذلك بدّ.
ألا إن فرسانَ الكلام والأقلام، كفرسان النزال والعراك في كثير من الخصائص، وكما أنّ الكمي المعلم يضيق بالفاقة ذَرعه، فتهون عليه بيضته ودرعه، وهيهات أن يهون عليه سيفه ورمحه، لأن وظيفة البيضة والدرع أن يحفظا على الكميّ في ساعة الروعْ مهجته، وهي أهونُ مفقود في تلك الساعة. أما وظيفة السيف والرمح فهي الإنكاءُ في العدو، والإنكاء في العدو هو الغاية التي تنتهي إليها شجاعة الشجاع. كذلك حملةُ الألسنة والأقلام يجبُ أن يكونوا، ليحققوا التشبيه الذي تواطأت عليه آداب الأمم، فلتأتهم المصائب من كل صوب، ولتنزل عليهم الضرورات من كل سماء، وليخرجوا من كل شيء إلا من شيئين: القلم واللسان ... إن بيع القلم واللسان أقبحُ من بيع الجنديّ لسلاحه.
إن جمعية العلماء حين قررت السكوتَ حافظت على هذين ولم تتسامح في تسخيرهما لأحد، وتركت أحداثَ الدهر تعملُ عملها، على أنها ما سكتتْ عن درس ديني أو علمي، ولا عن نصيحة رشيدة، ولا عن موعظة حسنة، وإنما قررت السكوتَ عن كل ما يقال لها فيه: قولي.
__________
1) لما أعلنت الحرب العالمية الأخيرة اجتمع أعضاء المجلس الإداري لجمعية العلماء ليقرروا ما يلزم لمستقبل الجمعية احتياطًا لأنهم خشوا أن تمنعهم التدبيرات العسكرية من الاجتماع واللقاء في أثناء الحرب فيكون كل عضو محبوسًا في بلدته وربما كلف كل عضو بتصريح أو بإبداء رأي لا يتفق مع مبادئ الجمعية، فاتفقوا على تقرير السكوت سدًّا للباب بمعنى أن كل من سئل وحده أو كلف بشيء مما يرجع إلى الجمعية سكت ولم يجب بشيء.

الصفحة 43