كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 3)

ثم جاءت ثالثة الأثافي، وهي المطبعة، وفي هذه المحاولات التي حاولناها بحرص ونشاط انقضت سنة كاملة، ومن العبث أن نطيلَ القولَ فيها، وأن نعيدَ الحديثَ عنها والتشكي منها.
...

ها إن نومة «البصائر» - على طولها- أصبحتْ كإغفاءة المهموم في قصرها وفائدتها بفضل الصبر والأناة، وها هي ذي عادت إلى الحياة، ووخزتها الخضرة من جوانبها، فسلوها كيف تركت جمعية العلماء وكيف وجدتها؛ وسلوها حين فتحت عينيها عن الوجود الثانى، ماذا عرفتْ وماذا أنكرتْ من الناس والأحوال؛
أما عن الناس وأحوالهم فقد عرفتْ هذا الشعورَ الفياضَ من الأحياء المستضعفين بحقهم في الحياة، وهذا الإصرارَ الدائبَ على المطالبة به، وهذا المنطقَ الحكيمَ الذي يترجم تلك المطالبة، وهذا البغضَ المتأججَ للاستعمار وحماته، والاستعباد ودعاته، وهذا الإجماعَ المنعقدَ بين الضعفاء على الأخذ بتلابيب الأقوياء، حتى يؤدوا الحق إلى طلابه، كأن الضعف رحمٌ شابكة بينهم، فهم يتباروْن في وصلها والبر بها، إلى كيت وكيت مما أيقظته المصائب بعد همود، وأذكتْ نارَه الحوادث بعد خمود، وكان ليد الله فيه الأثر الذي لا ينكر.
وأنكرتْ هذا الجفاف الذي انتهى بعواطف الأقوياء إلى درجة التحجر، وهذا التنمر الحيواني الذي يظهره الاستعمار ليخيف به الفرائسَ حتى تسكنَ إلى حين، وهذه الديمقراطية الزائفة التي اتخذها أدعياؤها حبالة صيد، ووسيلة كيد. ولاكوها بألسنة مقطوعة الصلة بالقلوب، وأصبحت في أفواههم كالعلك يمضَغ ولا يزدرد، وهذا النفاقَ السياسي الذي غطى على فضيلة الصراحة، فلم يصفُ معه ضمير، ولم يصدق معه لسان، ولم تثبت عليه ثقة، وهذه الأساليب الإدارية العوجاء التي فضحها الحق فما زادت في مقاومته على أن فضحتْ نفسها، وأنكرتْ- آخرَ ما أنكرت- هذا الجو القاتم الذي منع الراحةَ والهدوءَ، وسلب السكونَ والاطمئنان، وبعث القلقَ والاضطراب إلى هنات وهنات، أسخفها معاملة الإدارة الجزائرية لجريدة «البصائر». فقد مرت سنةٌ و «البصائر» تطالب بحقها في الحياة، وحظها من الورق، ولم تحصُل بعدَ هذا الزمن الطويل على طائل.
هذا بعض ما عرفت «البصائر» وأنكرتْ من الناس وأحوالهم؛ فأما جمعية العلماء وكيف كانت وكيف هي الآن، وما هي مواقفها في مبادئها وما يمس مبادئها، فهي الميادين التي حَييتْ جريدة «البصائر» لاقتحامها، فانتظروا فستُجلّي لكم الحقائق كما هي، وستفضح المخبآت التي كثر فيها لغط اللاغطين، وستكشف الدعاوى الزائفةَ التي تجري بها ألسنة المضللين.

الصفحة 45