كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 3)

زمنها، فتعهد في الظاهر باحترامها، والمحافظة عليها، وقطع قادته وأئمته العهودَ على أنفسهم وعلى دولتهم ليكونُنَّ الحامين للموجود المشهود من عقائد ومعابد وعوائد، ولكنهم عملوا في الباطن على محوها بالتدريج، وتمّ لهم- على طول الزمن بالقوة وبطرائق من التضليل والتغفيل- جزءٌ مما أرادوا؛ والاستعمارُ سلٌّ يحارب أسبابَ المناعة في الجسم الصحيح؛ وهو في هذا الوطن قد أدار قوانينه على نسْخ الأحكام الإسلامية، وعبث بحرمة المعابد، وحارب الإيمانَ بالإلحاد، والفضائلَ بحماية الرذائل، والتعليمَ بإفشاء الأمية، والبيانَ العربي بهذه البلبلة التي لا يستقيم معها تعبير ولا تفكير.
ومهما يكنْ نجاحُ الاستعمار في هذا الباب فما هو بالنجاح الذي يشرّفُ فرنسا، أو يمجد تاريخها، بعد أن أبقى جروحًا دامية في نفوس المسلمين، وبعد أن كان من نتائجه هذا الجو المتغير الذي يتمنى له كل عاقل الصفاءَ والإشراق، وهذه الحالةَ المحزنة التي يود كل منصف أن تزولَ، وأن يخلفها طور سرور واطمئنان.
...

لبثت عواملُ الاستعمار تهدم من هيكل الإسلام ولا تبني، وترمي المقوّمات الإسلامية والخصائصَ العربية في كل يوم بفاقرة من المسخ، إلى أن تكونت جمعيةُ العلماء المسلمين الجزائريين منذ خمسةَ عشرَ عامًا، تكونًا طبيعيها كأنه نتيجة لازمة لتلك الحالة، وقامت تعمل لإصلاح الإسلام بين المسلمين، وللمطالبة بحقوقه المغصوبة، وبحرية لغته المسْلوبة، وسمع الاستعمارُ لأول مرة في حياته بهذه الديار، نغمةً جديدةً لم تألفها أذُناه، تدعو إلى الحق، في قوّة، وتطالب بالإنصاف في منطق؛ وأحسّ دبيبَ الحياة والشعور في الجسم الإسلامي؛ فلم ينظر إلى ذلك كله على أنه حق طبيعي معقول، ضاع بين حيلة المحتال، وغفلة الغافل، في وقت؛ فمن المعقول أن يرجعَ إلى نصابه بين إنصاف المنصف، وحزم الحازم، في وقت آخر؛ ولكنه نظر إلى ذلك على أنه شذوذ في قاعدة، وخرق لإجماع، وتطاوُلٌ من عبد على مالك؛ ورتب على مقدّمات الدعوة الإصلاحية نتائجَ لا ترتبط بها؛ فقاومها ونصب المكايد للعلماء العاملين، وبثّ المصائد للمغرورين والمذبذبين، وكان ما كان، ولكنّ ذلك كله لم يزد حركةَ الإصلاح إلا تغلغلاً في الأمة، ولم يزد الأمةَ إلا قوةَ شعور بحقها المهضوم؛ فتعالت الأصوات من كل ناحية وتداعى طلابُ الإصلاح في كل ميدان؛ ولو أن الاستعمارَ كان فقيهًا في سنن الله في الأمم والطبائع لأنصفَ الأمم من نفسه فاستراح وأراح، ولعلم أن عين المظلوم، كعين الاستعمار، كلتاهما يقظة.
***

الصفحة 47