كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 3)

عملها في توجيه الأمة:
لا تستطيع هيئة من الهيئات العاملة لخير الجزائر أن تتعلق بغبار جمعية العلماء في هذا المضمار، أو تدعي أن لها يدًا مثل يدها في توجيه الأمة الجزائرية للصالحات، وتربيتها التربية العقلية والروحية المثمرة، ورياضتها على الفضيلة الشرقية الإسلامية، وتصحيح نظرتها للحياة، ووزنها للرجال، وتقديرها للأعمال.
كل ذلك من اختصاصات جمعية العلماء، وكل ما تم منه فهو من صنع يدها، لا فضل فيه لأحد سواها، وأوّل يد بيضاء لها في هذا الباب تحرير العقول من الأوهام والضلالات في الدين والدنيا، وتحرير النفوس من تأليه الأهواء والرجال، وإن تحرير العقول لأساسٌ لتحرير الأبدان، وأصْلٌ له، ومحال أن يتحرّر بدَنٌ يحمل عقلًا عبدًا.
إن هذا النوع من التحرير لا يقوم به، ولا يقوَى عليه، إلا العلماء الربانيون المصلحون، فهو أثر طبيعي للإصلاح الديني الذي اضطلعت بحمله جمعية العلماء، عرف ذلك من عرَفه لها إنصافًا، وأنكره من أنكره عنادًا وحسدًا. فما زادها اعتراف المعترف إلا نشاطًا، وما زادها جحودُ الجاحد إلا حزمًا وثباتًا.
بذلك التحرير العقلي الذي أساسه توحيدُ الله، تمكنت الجمعية من توحيد الميول المختلفة، والمشارب المتباينة. والنزعات المتضاربة.
وبذلك التحرير أيقظت في الأمة قوة التمييز بين الصالح من الرجال والصحيح من المبادئ، وبين الطالح والزائف منهما.
وبذلك التحرير أراحت الأمة من أصنام كانت تتعبدها باسم الدين أو باسم السياسة. وبذلك التحرير زرعت البذرة الأولى لما يسمى الرأي العام في الجزائر، وتكوُّن الرأي العام بمعناه الصحيح هو بلوغ الرشد بالنسبة إلى الجماعات.
إن الأمة الجزائرية، كغيرها من الأمم الإسلامية، ما سقطت في هذه الهوّة السحيقة من الانحطاط إلا حين فقدت القيادة الرشيدة في الدين، تلك القيادة التي هي قبس من شعلة الوحي، وشعبة من قوة النبوّة، والتي تنبثق عنها جماعات المسلمين، حينما يضرب الفساد والنخر في أصول مجتمعهم.
فإذا وجدت الأمة هذه القيادة التي لا يسفهُ في يدها زمام، ولا تضطرب مقادة، وجدت نفسها، ومن وجد نفسه وجد الحقيقة.

الصفحة 56