كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 3)

كأن الجزيرة العربية أم رؤوم لهذا الشمال، تعدّه فلذةً من كبدها، فهي تعطف عليه وتحن إليه، وتجعل منه مراوح لِقَيْظها، وضفافًا لفيضها، حنت إليه في حقبة غابرة من التاريخ، فرمته بقبائل يمانين، من بنيها الميامين، ينقلون إليه الدماء والخصائص، والمكارم والمفاخر، وحنت إليه بعد الإسلام، فأوفدت إليه الغر البهاليل من أصحاب محمد، يحملون الرحمة والسلام والبيان، ويفتحون الأذهان والعقول والأفكار؛ وما كانت غارة هلال بن عامر في المائة الخامسة للهجرة- على ما فيها من الهنات- إلا تلقيحًا لتلك الدماء التي أثَّرت فيها مؤثرات الهواء والتربة، وطول الثواء والغربة، وعمل فيها تداول الأمم الفاتحة، وتعاقبُ الدِّلاء الماتحة.
هذا بعض ما قدمته جمعية العلماء للعروبة من صنائع لهذا الوطن، تفخر به من غير منّ، وتجود به من غير ضنّ، ولولا الحياءُ لقالت أكثر من ذلك، ولَتَحَدَّتْ كل العاملين في الشرق العربي لرفعة العربية وإعلاء شأنها بين اللغات، بأنها عملت لها أكثر مما عملوا، عملوا لها وهم أحرار آمنون، في بلد لسانه وجنسه عربيان وحاكمه ومحكومه عربيَّان، وعملنا لها تحت زمجرة الاستعمار ودمدمة أنصاره، وأنقذناها من بين أنيابه وأظفاره.
رفعنا منارها في وطن لم يبقِ الاستعمار من عروبته إلا "اسم الجنس"، يضربه مثلًا للدناءة والخسة وللجهل والانحطاط، ولم يبق من عربيته إلا "اسم الفعل" يجعله رمزًا للبذاءة والسباب والشتم.
وفي أمة أشاع الاستعمار في جوانبها جاهليةً بلا مكارم، وأميةً بلا شعر، وفي جيل مخضرم مفتون، أعرضهم في العروبة دعوى هو أكبرُهم عقوقًا للعربية، وأشدّهم بالقومية تبجحًا هو أشدّهم نكايةً فيها، ومقاومةً لتعليمها ونشرها.

الصفحة 58