كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 3)

كيموي من خصائصه إحالة الأعيان معاني، والمعاني أعيانًا فيحيل الرجال مكائد، والمكائد رجالًا ... وفي هذا المعمل صُنع العاصمي وامتحن، فكشف الامتحان عن استيفاء الخصائص والصلاحية للاستعمال، وأصبح- بعد استكمال التجربة والاختبار- موظفًا في إحدى هذه الوظائف (المدّخرة لوقت الحاجة ولمن تدعو إليهم الحاجة) وهي الإفتاء الحنفي بالجزائر، أي مفتي الجامع الحنفي بالجزائر، إذ لم يبق من الحنفية فيها إلّا جامع يحمل هذه النسبة، وكان من دهاء الاستعمار أن استغل هذه النسبة المجردة، ورأى أن الجامع يجمع ولا يفرق، فوضع فيه رجلًا- أيًّا كان- ليفرق به ولا يجمع، وحفظ به هذه الوظيفة لهذه الغاية، ومن دأب الاستعمار فينا أن يُعمر الرجال بالوظائف، لا الوظائف بالرجال، وإذا لم يبق في الجزائر من يتعبد على مذهب أبي حنيفة أو يتعامل عليه، فأيُّ معنى لوجود مفت حنفي أو قاض حنفي، لولا أن للاستعمار مأربًا في إبقاء هذه المعالم الصورية من بقايا العهد التركي، على أن نسبة المساجد إلى المذاهب ليست من الإسلام في شيء، إذ هي منافية لروح الإسلام، ومناقضة لحكمته في المساجد.
إن وظيفة المفتي من أساسها تزوير على الإسلام، لأن الفتيا في الحلال والحرام حق على كل عالم بالأحكام مستوف للشرائط المقررة في الدين ... وإن وجود وظيفة مفت حنفي في الجزائر تزوير على المذهب الحنفي، وأين العاصمي ومن جرى مجراه من فقه أبي حنيفة ودقائقه وقياسه؛ إن نسبة الحنفي، تشترك في بني حنيفة وأبي حنيفة، فلينظر العاصمي أشبه النسبتين به، وبنو حنيفة هم قوم مسيلمة الذين آووه ونصروه، ومن غرائب الشبه أن مسيلمة الحنفي كان تشويشًا على النبوة الحقة، وأن المفتي الحنفي كان تشويشًا على مطالب المسلمين الحقة.
...

والتقرير محبوك الأطراف حبكًا استعمارًّيا، مسبوك الألفاظ سبكًا إدارًّيا، يبدأ من الحكومة وينتهي إليها، يلوح من خلال ألفاظه ومعانيه حرص الحكومة على أن لا يفلت هذا الصيد من يدها، فهي تستنجد التاريخ وتستشهد بعوائد المسلمين ونظم الأقطار الإسلامية.
وهو ينطوي على تلك الروح التي نعرفها في المعاهدات السياسية من دس الحيلة، وإخفاء الغرض، والاستهواء بالمصلحة، والتزوير على التاريخ، والقياس مع الفارق.
وهو يدور على أصل واحد، ولكنه أصل فاسد، يفسد كل ما انبنى عليه، وهو أن أولى الناس بالتصرّف في المساجد هم الموظفون الرسميون، ويسميهم التقرير "رجال الدين"، كأن الأمة كلها نساء الدين، وليس من رجاله إلّا العاصمي وآله وصحبه، ويستشهد على ذلك بأن

الصفحة 88