كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 5)
ومن الموضوعات الجديدة التي تلفت النظر أيضا كلمة الشيخ عن المفكر الثائر جمال الدين الأفغاني. فلأول مرة نطلع على تقدير الشيخ للأفغاني في عبارات قوية عرّض فيها "بعلماء القشور والرسوم" الذين ينظرون إلى الأفغاني على أنه "ليس عالمًا دينيًا بالمعنى الذي يفهمونه من الدين" لأن العالم الديني عندهم هو "حاكي أقوال وحافظ اصطلحات وراوي حكايات". وقال ان "أصحاب العقول المدبّرة والأفكار المثمرة، والبصائر النيرة، والموازين الصحيحة للرجال، فإنهم يرون الأفغاني عالمًا أي عالم، وفردًا انطوى على عالم، وحكيمًا أي حكيم، وأنه أحيى وظيفة العالم الديني وأعادها سيرتها الأولى، وأنعش جَدَّها العاثر، وجدّد رسمها الداثر". وكانت علاقة الشيخ الإبراهيمي تاريخيًا بفكر الشيخ محمد عبده ورشيد رضا أوضح من علاقته بفكر الأفغاني لأنه كتب بنفسه عن ذلك في عدة مناسبات، وكانت جمعية العلماء تعتمد في ظاهر الأمر مذهب الشيخ عبده وتفضله على مذهب الأفغاني، ولكن الإبراهيمي في كلمته الجديدة ظهر منتصرًا للأفغاني انتصارًا كبيرًا. ومع ذلك فقد كنا نتمنى أن لو تعرض الإبراهيمي إلى صلة مذهب الأفغاني بالفكر السياسي والإصلاحي في الجزائر. ذلك أن كلمته اقتصرت على الحديث عن شخصية وحكمة ودور الأفغاني كوجه من وجوه الشرق والإسلام.
تمنى الإبراهيمي في مقالته "فرنسا وثورة الجزائر"- وهي مقالة قديمة أضيف إليها ذيل- أن يقيّض الله لثورة الجزائر مؤرخًا من أبنائها "مستنير البصيرة" مسدد الفكر والقلم، صحيح الاستنتاج، سديد الملاحظة، فقيهًا في ربط الأسباب بالمسببات" ليكتب "تاريخًا لا يقف عند الظواهر والسطحيات ... بل يتغلغل إلى ما وراء ذلك من الأسباب النفسية التي تحرك فرنسا إلى هذه المجازر البشرية وإلى العوامل التي تدفع المقاتلين (الجزائريين) إلى هذه الاستماتة في حرب حارت فيها عقول ذوي العقول ... " وأضاف "لا نخطط الخطوط لذلك المؤرخ المرتقب، ولا نحدد الحدود لذلك المؤرخ، ولا نقدم له صورة هينة، فذلك المؤرخ الذي أعدَّه الله لهذه المنقبة لعله لم يولد بعد، وإنما الشرط فيه أن يكون جزائريًّا". إن هذا الرأي يضع مواصفات المؤرخ الذي سيكتب تاريخ الثورة، كما يضع أيضًا مواصفات للمؤرخ عمومًا، كالثقافة المتينة، وقوّة الاستنباط، والبحث عن العلل والأسباب والغوص وراء الظواهر، ومعرفة الدوافع الباطنية.
أتينا بهذه العينات من كتابات الشيخ الإبراهيمي في الموضوعات الجديدة ليعرف القارئ أننا أمام مادة غزيرة أخرى تكشف عن هوية الشيخ المتمثلة في الوطنية والعروبة والإسلام. وعلينا أن نضيف إلى ذلك كتاباته المجهولة عن شوقي في المقالتين المذكورتين إذ يقدم الشيخ فيهما خلاصة رأيه في هذا الشاعر الذي أحبَّ الإبراهيمي شعره حتى كان يحفظ الكثير منه منذ كان في العشرين من عمره. وقد روى في مكان آخر أنه عند توقفه بمصر ممنة 1911 ذهب إلى
الصفحة 14
416