كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 5)
تحرير العقول أصعب وأشق من تحرير الحقول، ذلك أن تحرير الحقول يستطيع أن يقوم به كل شخص، أما تحرير العقول فلا يقدر عليه إلّا راسخ في العلم عميق في الفهم، صادق في العزم، مخلص في القصد.
من أجل ذلك قضى الإمام الإبراهيمي أزهر مراحل عمره في تحرير عقول الجزائريين وتغيير ما بأنفسهم، وقد عمل في سبيل هذا الهدف في عدّة جبهات:
1) جبهة الطرقية المنحرفة وعلماء الدين الرسميين، الذين ضلّ سعيهم، واتخذوا الفرنسيين أولياء لهم، ورضُوا بالدنية في دينهم، وأوحوا إلى الشعب الجزائري أن الاستعمار قضاء وقدر لا مرَدَّ له، وأن رفضه ومقاومته محادة لله. وكذبوا، وصدق الله القائل عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ}. وهل يوجد من هو أفحش من الاستعمار الفرنسي الذي اغتصب البلاد، واستعبد العباد، وأهان الدين، وانتهك الأعراض، ونشر الجهل، وحرَّم العلم، وأمر بالمنكر ونَهَى عن المعروف؟
2) جبهة المستَلَبِين، الذين نالوا نصيبًا من الثقافة الفرنسية، فانسلخوا من دينهم، واحتقروا لغتهم، وسخروا من تاريخهم، وكان أكبر همهم أن ترضى عنهم فرنسا، فدعوا إلى إدماج الجزائر فيها طوعًا أو كرهًا. وقد كان الإمام الإبراهيمي يعتبرهم ضحايا يجب إنقاذهم، ومرضى يجب إسعافهم. وقد أرجع الإمام سبب ضلالهم إلى الطرقيين الذين أشاعوا الخرافات، ونسبوها إلى الإسلام، وإلى المستشرقين الذين شوهوا صورة الإسلام، وعرضوه في أبشع الصور تنفيرًا منه. وقد استطاع الإمام أن ينقذ كثيرًا من هؤلاء المستلبين، وأن يعيدهم في ملتهم، بعد أن عرَّفهم بحقيقة الإسلام، وبأمجاد المسلمين التاريخية، ومنجزاتهم العلمية، وقد استفادت الثورة- فيما بعد- مِنْ خدمات طيبة قدَّمها هؤلاء.
3) جبهة "الطرقية السياسية" (4)، وهم الذين أبدلوا الجزائريين "الزعيم" بشيخ الطريقة، وحصروا القضية الوطنية في شخص، وهذا ما سماه بيان أول نوفمبر 1954 "التوجيه المنحرف" للحركة الوطنية، وما ندَّد به مؤتمر الصومام في وثيقته سنة 1956. وقد أشار الشاعر مفدي زكريا إلى هذه الفكرة بقوله:
وتأبى الزعامات كبح الطموح، … فتصنع للخُلف شكلًا جديدًا.
وتغزو السياسة فكر الزعيم … فيصبح فكر الزعيم بليدًا
كأن الزعامة إعصار جان … ولم أر للجان عقلًا رشيدًا (5).
__________
4) نفس المرجع.
5) مفدي زكرياء: إلياذة الجزائر. نشر وزارة الشؤون الدينية، الجزائر 1986، [ص:63]، وانظر مقال: "كيف تشكلت الهيئة العليا لإعانة فلسطين" في الجزء الثاني من هذه الآثار.
الصفحة 18
416