كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (اسم الجزء: 5)

4) الجبهة الفرنسية، فقد عمل على نزع هيبة الفرنسيين ورهبتهم من صدور الجزائريين، وكان يردّد في مقالاته وخطبه أن قوّة الفرنسيين من ضعف الجزائريين، الناشئ عن التفرّق، والجهل، والكسل، ويوحي إليهم بعدم الاستسلام "فلا أظلم من الظالم إلّا من يخضع لظلمه ويحترم قوانينه الظالمة"، و"لا تستيئسوا، إن لم يكن لكم بعض ما لديهم من القوّة المادية، فعندكم من القوّة المعنوية ما لو أحسنتم تصريفه واستغلاله لغلب ضعفكم قوّتهم" (6). وكان يُشيع لفظ الحرية حتى تألفه الأُذُن، ويهفو إليها القلب، وتسعى إلى نيلها اليد، وفي هذا الإطار يدخل وصفُ مؤسسات الجمعية والمنتسبين إليها بالحرية، فمدارسها حرّة، وتعليمها حر، ومعلموها أحرار، ومساجدها حرّة، وصحافتها حرّة .. وقد أشار المسؤولون الفرنسيون إلى بعض أعمال الإمام الإبراهيمي في هذا الشأن، حيث جاء في تقرير والي وهران إلى الوالي العام الفرنسي "إن الإبراهيمي ليس فقط محركًا للضمير العام، ولكنه أصبح المحرك لكل الأنشطة السياسية المحلية الأهلية ذات الطموح المضاد لفرنسا" (7). ومن وسائله في ذلك ما حدّثني به الأستاذ أحمد بن ذياب- في أفريل 1986 - من أن الإمام الإبراهيمي كان ينظم الأزجال باللهجة العامية يندّد فيها بفرنسا، ويدعو إلى عدم رهبتها، والاستعداد لطردها من الجزائر، ويسرب تلك الأزجال إلى المدَّاحين لإنشادها في الأسواق، والمناسبات الاجتماعية والأعياد الدينية.
حقق الإمام- وجمعية العلماء- نجاحًا كبيرًا في تحرير عقول الجزائريين، فنبذ أغلبهم الطرقية، ولم يعودوا "فقراء" (8) إلى شيوخها، وتبرأوا من الاندماجيين الذين أصرُّوا على موقفهم، وتخلصوا من ظاهرة تقديس الزعيم وعبادة الشخص، وأخرَجُوا الاستعمار من صدورهم فخرج- بعد حين- من أرضهم. ولاحظ الإمام في جولاته عبر التراب الوطني، وفي اتصالاته بمختلف فئات الشعب أن الوعي قد انتشر، وأن تحرير العقول والنفوس قد تمّ أو يكاد يكتمل، فأيقن أن ساعة فرنسا في الجزائر قد اقْتَرَبَتْ، وأنها آتية لا رِيْبَ فيها، وأدرك أن هذه "الظواهر الهادئة، ما هي إلّا أواخر فورة وأوائل ثورة" (9) و "ليُوشكنَّ أن يغير الله ما بنا بعد أن غيرنا ما بأنفسنا" (10).
__________
6) انظر مقال "دعوة صارخة إلى اتحاد الأحزاب والهيئات" في الجزء الثالث من هذه الآثار.
7) أبو القاسم سعد الله: الشيخ الإبراهيمي في تلمسان، مجلة الثقافة، عدد 101، الجزائر (1988) [ص:87].
8) يسمِّي شيوخ الطرقيين فى الجزائر أتباعهم "فقراء"، وأنساهم الشيطان قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ}.
9) انظر مقال: "حقائق" في الجزء الثالث من هذه الآثار، والمقصود بالفورة حوادث 8 مايو 1945.
10) انظر مقال: "فتح جامع الحنايا ومدرستها" في الجزء الثاني من هذه الآثار.

الصفحة 19